تتناول المقالة الثورة السورية بوصفها تجربة إنسانية وفلسفية تتجاوز الحدث السياسي، وتُبرز صمود الشعب السوري في مواجهة تحولات داخلية وخارجية. تُدمج شخصيات فكرية مثل الطيب تيزيني، فوكو، غرامشي، وسارتر لتوضيح أبعاد الوعي الجمعي، وتُستحضر أمثلة واقعية مثل داريا لتجسيد المقاومة الثقافية. المقالة تُعيد تعريف الثورة كفعل وجودي، لا مجرد حركة احتجاجية
الثورة السورية ليست مجرد سلسلة من الأحداث السياسية أو احتجاجات عابرة، بل هي تجربة إنسانية وفكرية عميقة، تكشف عن جوهر الروح السورية حين تواجه تحديات وجودية. منذ شرارتها الأولى في عام 2011، دخلت سوريا مرحلة اختبار شامل: صراع على الهوية الوطنية، مقاومة للسلطة القمعية، ومحاولة لإعادة صياغة المستقبل السياسي والاجتماعي. الثورة هنا ليست حدثاً، بل مرآة تعكس العزم، الصبر، والقدرة على الصمود في وجه الخطر المستمر، كما لو أن التاريخ نفسه قرر أن يختبر مدى قدرة شعب على إعادة تعريف ذاته.
لفهم الثورة السورية، لا بد من العودة إلى البنية التاريخية والاجتماعية التي سبقتها. فالشعب السوري، بتعدده الثقافي والديني والمناطقي، وجد نفسه أمام مفترق طرق: بين إرث طويل من القمع السياسي، وبين رغبة متجددة في تقرير المصير. هذا المفترق لا يشبه لحظة انفجار، بل يشبه ما وصفه المفكر الفرنسي ميشيل فوكو بـ”لحظة انكشاف السلطة”، حين يدرك الفرد أن النظام لم يعد قادراً على إخفاء هشاشته، وأن المقاومة لم تعد خياراً بل ضرورة.
في هذا السياق، لم تكن الثورة مجرد رغبة في تغيير النظام، بل كانت اختباراً للوعي الجمعي حول معنى الحرية والعدالة. كما عبّر المفكر السوري الطيب تيزيني، فإن الثورة ليست فقط فعلاً سياسياً، بل هي لحظة فلسفية تُعيد تعريف العلاقة بين الفرد والجماعة، بين التاريخ والمستقبل، وبين السلطة والكرامة. لقد تحوّل الشارع السوري إلى فضاء فلسفي، حيث يُطرح سؤال: من نحن؟ وماذا نستحق؟ وكيف نُعيد بناء وطن لا يُختزل في نظام، بل يُعبّر عن الإنسان؟
واحدة من أبرز سمات الثورة السورية هي صمود الشعب في مواجهة التحولات العميقة. القوى المتصارعة داخلياً وخارجياً حاولت استغلال الانقسامات، لكن الروح السورية أثبتت مرونة فكرية وعاطفية غير مسبوقة. كما في تجربة مدينة داريا، التي تحوّلت من رمز للدمار إلى نموذج للحراك المدني، حيث أعاد الشباب بناء مكتبة وسط الركام، وكأنهم يقولون إن الثقافة هي شكل من أشكال المقاومة. هذا الصمود لم يكن جسدياً فقط، بل فكرياً وروحياً، يُشبه ما وصفه غرامشي بـ”تفاؤل الإرادة في وجه تشاؤم العقل”.
من منظور القوى السياسية، شكّلت الثورة نقطة تحول ليس فقط داخلياً، بل على مستوى الإقليم والدولي. القوى الكبرى حاولت استثمار الأزمة لتحقيق مصالحها، بينما كانت التوازنات المحلية تتغير بسرعة غير متوقعة. كما في لحظة دخول الفاعلين غير الدوليين إلى المشهد، من ميليشيات عابرة للحدود إلى تحالفات دولية متبدّلة، بدا أن السياسة السورية لم تعد تُدار من الداخل فقط، بل أصبحت ساحةً لتصفية الحسابات الإقليمية. ومع ذلك، ظل الوعي الشعبي عنصراً لا يمكن تجاهله، كما أثبتت موجات التظاهر المدني التي استمرت رغم القصف والتهجير.
الثورة السورية أيضاً تجربة فلسفية بامتياز. فهي تطرح أسئلة جوهرية عن طبيعة الحرية، وعن دور الفرد في صنع التاريخ، وعن العلاقة بين المقاومة والصمود والإيمان بالمستقبل. كما يقول جان بول سارتر، فإن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع، وهي ليست حالة، بل فعل مستمر. وفي قلب هذا الصراع، تتكشف قيمة الإرادة الإنسانية، وكيف يمكن للوعي الجمعي أن يتحوّل إلى قوة أمام القوى التي تحاول فرض إرادتها.
وأختم، علمتنا الثورة السورية أن الصمود ليس مجرد مقاومة جسدية، بل صمود فكري وروحي أيضاً. إنها دعوة لفهم القوى المتحركة وراء الأحداث، وللتأمل في العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل، وبين الفرد والجماعة. وكما عبّر إدوارد سعيد عن الهوية بوصفها سردية مقاومة، فإن الثورة السورية تظل علامة فارقة في التاريخ الحديث، وتجربة عميقة لفهم معنى الصمود والتحولات السياسية في سياق أزمة شاملة، حيث يصبح الشعب السوري محوراً لكل تحليل، وبؤرة كل تطور، ومصدر كل أمل.
حسان دالاتي، 22/7/2019

















Leave a Comment
Your email address will not be published. Required fields are marked with *