تتناول المقالة موقع سوريا في معادلة الديمقراطية العربية، وتُعيد تعريف الحرية بوصفها تجربة فكرية وروحية لا مجرد نظام سياسي. المقالة تُبرز أن الديمقراطية لا تُستورد، بل تُبنى من الداخل، وأن سوريا تحمل إمكانيات حقيقية رغم التحديات.
الديمقراطية ليست مجرد نظام حكومي أو آلية انتخابية، بل هي تجربة إنسانية متجددة، تُعيد طرح سؤال العلاقة بين الفرد والسلطة، بين المجتمع والحرية، بين التاريخ والمستقبل. في العالم العربي، حيث تتراكم طبقات من الصراعات الإمبراطورية، والانقلابات، والتحولات الثقافية، يصبح مفهوم الحرية أكثر تعقيداً، وأغنى بالمعاني. هنا، الحرية ليست شعاراً سياسياً أو مادة إعلامية، بل حالة فكرية وروحية، تُعبّر عن قدرة الشعوب على تحديد مصيرها، والوعي بواجباتها وحقوقها، كما عبّر عنها عبد الرحمن الكواكبي حين ربط الاستبداد بانهيار الأخلاق، واعتبر الحرية شرطاً لتجدد الأمة.
سوريا، بتاريخها العريق وثقافتها العميقة، تحمل في طياتها القدرة على أن تكون جزءاً من الحل في معادلة الديمقراطية العربية. لكن هذا الدور لا يُمنح، بل يُبنى. فالديمقراطية ليست هبة خارجية، بل ثمرة نضج داخلي، وفهم مشترك لمعنى المشاركة، واحترام الاختلاف، والالتزام بالقيم الإنسانية. كما أشار المفكر السوري برهان غليون، فإن الديمقراطية لا تُستورد، بل تُصاغ من داخل المجتمع، عبر تجربة تاريخية تتفاعل مع الواقع، وتُعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة.
تجربة سوريا الحديثة، بكل ما شهدته من صراعات داخلية وخارجية، تعكس هذا التحدي بوضوح. كيف يمكن لمجتمع مزّقته الحروب، وأرهقته الهجرات، وتنازعته الانقسامات، أن يحقق حرية سياسية حقيقية؟ الإجابة لا تكمن في إعادة إنتاج نماذج جاهزة، بل في قدرة المجتمع على تحويل المعاناة إلى دروس، وعلى استثمار خبراته السابقة لبناء مستقبل أكثر عدالة. كما في تجربة المجالس المحلية التي نشأت في بعض المناطق خلال سنوات الثورة، حيث حاول المواطنون تنظيم حياتهم بعيداً عن السلطة المركزية، في نماذج أولية للمشاركة الشعبية، رغم هشاشتها.
الديمقراطية في هذا السياق ليست فقط حكم الأغلبية، بل احترام الحقوق، حماية الأقلية، وتعزيز روح المسؤولية الجماعية. إنها كما وصفها جون ستيوارت ميل، ليست مجرد آلية سياسية، بل ثقافة أخلاقية، تتطلب وعياً بالتعدد، واستعداداً للتعايش، وقدرة على إدارة الاختلاف دون قمع أو إقصاء.
ولا يمكن فصل هذا المشروع عن التحديات الإقليمية والدولية التي تواجهه. فالصراعات الجيوسياسية، التدخلات الخارجية، والأزمات الاقتصادية، كلها تؤثر مباشرة على قدرة الدولة والمجتمع على ممارسة الحرية بشكل فعّال. سوريا، في هذا الإطار، تمثل مثالاً حياً على هشاشة النظام السياسي أمام الضغوط، لكنها أيضاً تُجسّد إمكانية التغيير من الداخل، عبر وعي شعبي حقيقي وإرادة جماعية تستند إلى فهم عميق للحقوق والواجبات، كما عبّر عنها المفكر عزمي بشارة حين قال إن الديمقراطية تبدأ من سؤال: من يملك الحق في أن يُسأل؟
الفلسفة وراء الديمقراطية العربية، وسوريا كجزء من الحل، تتطلب تجاوز التفسيرات السطحية. يجب إدراك أن الحرية ليست فقط غياب القيود، بل قدرة الإنسان على المشاركة، على التفاعل، وعلى اتخاذ قراراته بشكل مستقل وواعٍ. الديمقراطية ليست حالة ثابتة، بل مسار مستمر من التجربة والخطأ، من التعلم من الماضي، ومن مواجهة التحديات المعقدة بروح الشجاعة والحكمة، كما في تجربة جنوب أفريقيا بعد نظام الفصل العنصري، حيث تحوّلت العدالة الانتقالية إلى أداة لبناء الثقة بين الدولة والمجتمع.
وهنا يمكن القول إن سوريا، رغم كل الأزمات والتحديات، تحمل في تاريخها ومجتمعها إمكانيات كبيرة لتكون جزءاً من الحل في مسيرة الديمقراطية العربية. الحرية هنا ليست فكرة نظرية، بل تجربة متحركة تتشكل من خلال وعي الشعب، وممارساته اليومية، وتفاعله مع التاريخ والمجتمع. إن فهم هذه العلاقة العميقة بين الحرية والديمقراطية وبين المجتمع السوري المعاصر يشكل مفتاحاً لفهم الطريق نحو مستقبل أكثر عدالة واستقراراً، ليس فقط لسوريا، بل للمنطقة بأسرها.
حسان دالاتي، 10/10/2022

















Leave a Comment
Your email address will not be published. Required fields are marked with *