728 x 90

الحروب بالوكالة في الشرق الأوسط: سوريا نموذجاً

الحروب بالوكالة في الشرق الأوسط: سوريا نموذجاً
تُحلل المقالة ظاهرة الحروب بالوكالة من خلال النموذج السوري، وتُظهر كيف تتحوّل سوريا إلى ساحة لصراع القوى الكبرىحسان دالاتي

تُحلل المقالة ظاهرة الحروب بالوكالة من خلال النموذج السوري، وتُظهر كيف تتحوّل سوريا إلى ساحة لصراع القوى الكبرى. تُدمج شخصيات فكرية مثل مايكل والزر، ريمون آرون، وإدوارد سعيد لتوضيح الأبعاد الفلسفية للصراع، وتُستحضر أمثلة واقعية مثل الزبداني والتعليم البديل لتجسيد الصمود الشعبي. المقالة تُعيد تعريف الحرب بالوكالة بوصفها اختباراً للهوية الوطنية والكرامة الإنسانية.

الحروب بالوكالة ليست مجرد صراع على الأرض أو تبادل للأسلحة، بل هي تجسيد حي لتوازن القوى الدولية والإقليمية، حيث تتحرك الأطراف الكبرى خلف الستار، مستغلة النزاعات المحلية لتحقيق مصالحها الاستراتيجية. في الشرق الأوسط، تُعد سوريا النموذج الأكثر وضوحاً لتعقيد هذه الظاهرة، فهي ليست مجرد دولة متأثرة بالأحداث، بل ساحة لصراع متشابك بين قوى داخلية وخارجية، حيث يصبح الشعب السوري، للأسف، الطرف الأكثر تضرراً، لكنه في الوقت ذاته محور هذا الصراع التاريخي.

منذ بداية الثورة السورية عام 2011، تداخلت المصالح الدولية والإقليمية بشكل غير مسبوق. الولايات المتحدة، روسيا، إيران، وتركيا، إلى جانب دول عربية مختلفة، تدخلت بطرق مباشرة وغير مباشرة لدعم أطراف متباينة في النزاع، سواء عبر التمويل، الدعم العسكري، أو التدريب الاستخباراتي. الصراع لم يكن محلياً بحتاً، بل انعكاساً لمعادلات القوى العالمية، حيث أصبحت سوريا ساحة اختبار للتكتيكات العسكرية، التأثير السياسي، وإعادة رسم نفوذ القوى الكبرى في المنطقة. كما عبّر المفكر الأمريكي مايكل والزر، فإن الحروب بالوكالة تُظهر كيف تتحوّل الدول الصغيرة إلى ساحات تجريبية لأفكار الكبار، دون أن يُسأل سكانها عن رأيهم.

 

هنا يظهر بوضوح أن الحروب بالوكالة ليست مجرد أداة عسكرية، بل سياسة استراتيجية تُمارس على الأرض السورية، مع تأثيرات عميقة على المجتمع، الاقتصاد، والهياكل الوطنية. التدخل الروسي في عام 2015، الذي قلب موازين القوى لصالح الحكومة السورية، لم يكن مجرد دعم عسكري، بل رسالة استراتيجية للعالم عن قدرة موسكو على إعادة التوازن الإقليمي. بالمقابل، الدعم الأمريكي لفصائل المعارضة، والدعم التركي لمجموعات مسلحة، كان له تأثير مباشر على مجريات المعارك وعلى السياسة المحلية، مؤكداً أن الحروب بالوكالة تُعيد تشكيل القرار الوطني من الخارج.

من منظور فلسفي، الحروب بالوكالة تكشف هشاشة الدولة أمام التدخلات الخارجية، لكنها في الوقت ذاته تبرز صلابة الشعب السوري. فعلى الرغم من القصف، الحصار، والتدخلات المعقدة، استمر المجتمع السوري في التكيّف والصمود، مستمداً قوته من تاريخ طويل من المقاومة، ومن شعور جماعي بالهوية الوطنية. كما في تجربة مدينة الزبداني، التي واجهت حصاراً خانقاً لكنها حافظت على شبكات دعمها الداخلي، فإن الصراع هنا ليس مجرد نزاع على السلطة، بل اختبار لإرادة الأمة، ولقدرة الإنسان على البقاء والحفاظ على كرامته وسط لعبة القوى الكبرى.

كل هذه التحركات تكشف عن طبقة من التعقيد السياسي، حيث يصبح كل حدث محلي جزءاً من لعبة دولية أوسع، تتشابك فيها المصالح، الأيديولوجيات، والمبادئ. كما أشار المفكر الفرنسي ريمون آرون، فإن “الحرب بالوكالة هي الشكل الأكثر تعقيداً للسياسة الخارجية، لأنها تُخفي النوايا خلف الأقنعة المحلية”، وهذا ما يجعل فهم المشهد السوري يتطلب تفكيكاً مزدوجاً: داخلياً وخارجياً.

إضافة إلى البعد العسكري والسياسي، للحروب بالوكالة أثر عميق على البنية الاجتماعية. النزوح الكبير، تدمير البنية التحتية، وانهيار الاقتصاد، كلها نتائج مباشرة لتشابك القوى الأجنبية والمحلية. ومع ذلك، يظهر الجانب الإنساني الأكثر قوة: قدرة السوريين على الابتكار، التأقلم، والحفاظ على شبكات الدعم الاجتماعي رغم كل الأزمات. كما في تجربة التعليم البديل في مناطق النزاع، حيث أنشأ الأهالي مدارس مؤقتة وسط الأنقاض، فإن هذه المرونة ليست مجرد رد فعل على المعاناة، بل تعبير عن وعي فلسفي عميق بأن الصمود الجماعي هو السبيل الوحيد للحفاظ على الهوية والكرامة الإنسانية وسط صراع عالمي متشابك.

سوريا هي نموذج حي لفهم الحروب بالوكالة في الشرق الأوسط، ليس فقط من زاوية السياسة الدولية، بل من زاوية فلسفية تعكس طبيعة الصراع الإنساني: بين السلطة والحرية، بين النفوذ والكرامة، وبين القوة والعقل. الحروب بالوكالة هنا ليست مجرد أداة لتحقيق مصالح الدول الكبرى، بل درس تاريخي وفلسفي للشعوب عن معنى الصمود، الحرية، وإعادة بناء المجتمع بعد الانكسارات العميقة. كما يقول إدوارد سعيد، فإن “الهوية تُصاغ في لحظات المقاومة”، وسوريا تُثبت أن القوة الحقيقية ليست في الأسلحة وحدها، بل في القدرة على الصمود، التعلم، وإعادة رسم المستقبل رغم كل التحديات الخارجية.

حسان دالاتي، 19/6/2019

Hassan Dalati
ADMINISTRATOR
PROFILE

Posts Carousel

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

Latest Posts

Top Authors

Most Commented

Featured Videos

Tags

أنطون سعادة أوغاريت أوغاريت وأبجدية العالم إدوارد سعيد إعادة بناء الهوية الصمود الثقافي والاجتماعي إيبلا وتاريخ الإدارة الأمة السورية التاريخ الثقافي السوري التجربة السورية التحولات الاجتماعية في سوريا التحولات السياسية في سوريا التضامن في زمن الأزمة التعليم البديل في سوريا الثورة السورية الحاضر السياسي السوري الحرية السياسية العربية الحضارات السورية القديمة الحضارة السورية القديمة الديمقراطية في سوريا الذاكرة الحضارية الزراعة الأولى في سوريا الشتات السوري الطيب تيزيني العدالة الانتقالية الفلسفة الاجتماعية السورية الفلسفة والمقاومة الفن السوري الحديث المبادرات المجتمعية المجتمع السوري قبل الثورة المقاومة الإنسانية النزوح والهجرة السورية النساء المعيلات الهوية الوطنية السورية بول ريكور جان بول سارتر والحرية داريا والمقاومة الثقافية سوريا مركز حضاري عالمي صمود الشعب السوري عبد الرحمن الكواكبي عزمي بشارة غرامشي وتفاؤل الإرادة فلسفة البعث ميشيل عفلق ميشيل فوكو والسلطة يورغن هابرماس