تُعيد المقالة رسم نشوء الشعور القومي السوري بوصفه مسارًا حضاريًا وفلسفيًا ممتدًا، يبدأ من التجربة الثقافية القديمة في أوغاريت وماري، ويتبلور سياسيًا في مواجهة الاستعمار، ثم يتجدد في لحظات الثورة والانقسام. تُبرز دور المفكرين مثل أنطون سعادة وميشيل عفلق في صياغة هذا الشعور، وتُظهر كيف تحوّل الانتماء من فكرة إلى ممارسة، ومن تراث إلى مشروع للصمود. المقالة تُعيد تعريف القومية بوصفها سردية جماعية تتفاعل مع الواقع، وتُنتج هوية مرنة قادرة على التجدد
نشوء الشعور القومي السوري لم يكن لحظة عابرة أو رد فعل سياسي محدود، بل هو مسار طويل من التراكمات الحضارية والتجارب الاجتماعية التي شكّلت وعي السوريين بهويتهم الجماعية. هذا الشعور لا يُختزل في الانتماء الجغرافي، بل يتجذّر في إدراك عميق للذات بوصفها امتدادًا لتاريخ ثقافي، لغوي، وروحي مشترك، يتفاعل مع الأرض والزمان، ويواجه تحديات تتطلب تضامنًا جماعيًا.
في العصور القديمة، كانت سوريا مركزًا لحضارات كبرى مثل أوغاريت، ماري، إبلا، والآراميين، حيث نشأت أولى الأبجديات، وتطورت نظم الحكم، وازدهرت الفنون والمعتقدات. هذه التجربة الحضارية المبكرة أسست لدى السوريين شعورًا بالاستمرارية والانتماء إلى تراث مشترك، حتى قبل ظهور الدولة الحديثة. لم يكن الانتماء آنذاك سياسيًا، بل ثقافيًا وروحيًا، يتجلى في اللغة، الطقوس، والممارسات اليومية التي عبرت عن وحدة التجربة رغم تنوعها.
مع دخول سوريا في العصر الحديث، خاصة في ظل الانتداب الفرنسي، بدأ هذا الشعور القومي يأخذ طابعًا سياسيًا واضحًا. محاولات التقسيم، فرض الهويات الطائفية، وتفكيك الجغرافيا السورية، دفعت المفكرين إلى إعادة صياغة الهوية على أسس فلسفية ومجتمعية. أنطون سعادة، في مشروعه حول “سوريا الطبيعية”، لم يكتف بتحديد حدود الأمة، بل قدّم تصورًا حضاريًا يرى الأمة بوصفها تفاعلًا بين الجغرافيا والتاريخ، بين الإنسان والمكان. أما ميشيل عفلق، فربط بين النهضة العربية والرسالة المحمدية، مؤكدًا أن القومية ليست مجرد رد فعل سياسي، بل فعل روحي وفكري يعيد تشكيل الإنسان والمجتمع.
الثورات والتحولات الاجتماعية، من ثورة الاستقلال إلى الثورة السورية الحديثة، أعادت تشكيل هذا الشعور القومي. في لحظات الانقسام، ظهر التمسك بالهوية المشتركة بوصفه فعلًا مقاومًا، كما في تجربة المدن المحاصرة التي أعادت إنتاج التضامن الأهلي، أو في الشتات السوري حيث تحوّلت الهوية إلى رابط معنوي بين المنفيين. الشعور القومي هنا لم يعد مجرد انتماء إلى الماضي، بل أصبح مشروعًا للصمود وإعادة البناء، كما في المبادرات الثقافية والتعليمية التي نشأت في المخيمات، أو في الحوارات الفكرية التي أعادت مساءلة معنى الوطن والانتماء.
فلسفيًا، يمكن اعتبار الشعور القومي السوري تجربة مركّبة تربط الفرد بالأمة، الماضي بالحاضر، والهوية بالمسؤولية. إنه ليس شعورًا عاطفيًا فقط، بل إدراك عقلاني وأخلاقي بأن الانتماء يتطلب مشاركة، تضامن، ووعي بالتاريخ والمصير. كما يقول بول ريكور، فإن الهوية تُبنى عبر السرد، والشعور القومي السوري هو سردية جماعية تتجدد مع كل أزمة، وتُعيد تعريف الذات في مواجهة التحديات.
ختامًا، الشعور القومي السوري ليس فكرة جامدة، بل عملية مستمرة من التفاعل بين التاريخ، الثقافة، السياسة، والمجتمع. إنه يعكس قدرة السوريين على الحفاظ على هويتهم رغم التمزقات، ويؤكد أن الأمة السورية ليست مجرد كيان جغرافي، بل مشروع حضاري وروحي يمتد عبر الأجيال، قادر على الصمود والتجدد، وعلى تحويل الألم إلى وعي، والانقسام إلى وحدة.
حسان دالاتي 14/6/2015

















Leave a Comment
Your email address will not be published. Required fields are marked with *