ميشيل عفلق، المؤسس المشارك لحزب البعث العربي الاشتراكي، يمثل حالة فريدة في تاريخ الفكر السياسي العربي الحديث، إذ جمع بين الرؤية الفلسفية العميقة والواقعية السياسية. فلسفته لم تكن مجرد برنامج سياسي، بل مشروع حضاري شامل، يسعى لإعادة بناء الأمة العربية على أسس الهوية الثقافية، الانتماء الفكري، والعدالة الاجتماعية. بالنسبة لعفلق، الأمة ليست مجرد مساحة جغرافية أوإطار سياسي، بل كيان حضاري يمتد عبر التاريخ، يمتلك إرثاً فكرياً وثقافياً مشتركاً يربط بين الشعوب العربية في إطار وعي مشترك.

في جوهر فلسفة البعث النظرية، نجد تركيزاً على الإنسان كفاعل حضاري، حيث يتم بناء الأمة من خلال وعي الأفراد بمسؤولياتهم تجاه المجتمع. الحرية، في هذا السياق، لا تُفهم على أنها غياب القيود فقط، بل القدرة على المشاركة الفاعلة في صياغة الواقع الاجتماعي والسياسي. الاشتراكية ليست مجرد توزيع اقتصادي، بل فلسفة حياة تهدف إلى تعزيز التضامن الاجتماعي، العدالة، والشعور بالانتماء الجماعي. كما عبّر عفلق في كتاباته، فإن “الحرية لا تُستورد، بل تُصنع من داخل الأمة”، وهي بذلك فعل جماعي لا مجرد مطلب فردي.

ركز عفلق أيضاً على الدور الحيوي للثقافة والفكر في بناء الأمة. فالسياسة ليست مجرد ممارسة للسلطة، بل أداة لتفعيل الوعي الجمعي، وتوجيه الشعوب نحو مشروع حضاري يربط بين التاريخ، التراث، والتحديات المعاصرة. كما في مقالاته عن النبي محمد، التي اعتبر فيها الرسالة المحمدية لحظة نهضة قومية، فإن فلسفة البعث تعتبر الفكر قوة محركة للتغيير الاجتماعي والسياسي، وأن أي نهضة حقيقية لا يمكن أن تتحقق بدون قاعدة معرفية وفكرية قوية.

تأثير ميشيل عفلق على الفكر السوري كان واضحاً عبر الأجيال. فلسفته شكلت أساساً لإعادة النظر في العلاقة بين الفرد والدولة، بين الانتماء الوطني والانتماء الحضاري، وبين الديمقراطية والمشاركة المجتمعية. من خلال طرحه لمفهوم الأمة باعتبارها وحدة حضارية وفكرية، لم يكتفِ بتحديد حدود الدولة أو الحكومة، بل سعى إلى ترسيخ شعور الانتماء العميق بين الأفراد والمجتمع ككل. كما في خطابه التأسيسي للحزب عام 1947، حيث دعا إلى “بعث الأمة العربية من جديد”، يتجلى البعد الوجودي لفكره، حيث تصبح السياسة وسيلة لإحياء الذات الجماعية.

من منظور فلسفي، يمكن القول إن فلسفة البعث النظرية تمثل محاولة لتجاوز الانقسام بين الفكر والسياسة، بين الحرية والمشاركة، بين الفرد والجماعة. إنها رؤية تدعو إلى التفكير العميق في طبيعة الأمة، في دور الثقافة والتاريخ في تشكيل الهوية، وفي كيفية إعادة بناء المجتمع على أسس عادلة ومستدامة. كما أشار المفكر المغربي محمد عابد الجابري، فإن “الفكر القومي لا ينجح إلا حين يُربط بالتحليل التاريخي”، وهذا ما فعله عفلق حين ربط النهضة بالماضي، دون أن يغرق فيه.

ختاماً، فلسفة البعث كما صاغها ميشيل عفلق تمثل رؤية متكاملة، تجمع بين العمق الفكري والبعد السياسي، بين التراث والحداثة، وبين الفرد والمجتمع. إنها تجربة فكرية تحث على النقد والتحليل المستمر، وتجعل من السياسة وسيلة لتفعيل الوعي، لا مجرد أداة للسلطة. إن إرث عفلق الفكري يظل نقطة انطلاق لفهم النهضة العربية المعاصرة، ولإعادة صياغة العلاقة بين الفكر والسياسة، بين الهوية الوطنية والانتماء الحضاري، في زمن تتجدد فيه الأسئلة حول معنى الأمة، ودور الإنسان في بنائها.

حسان دالاتي، 8/10/2006