تُعيد المقالة تعريف تاريخ سوريا بوصفه تجربة إنسانية وفلسفية، تتجاوز الأحداث لتُجسّد معنى الصمود. تُدمج أمثلة من الحضارات القديمة، الثورة السورية، والشتات، وتُربط بمفاهيم فلسفية مثل إرادة القوة والاستمرارية. تُظهر أن سوريا ليست مجرد جغرافيا، بل روح قادرة على إعادة تشكيل ذاتها، وأن الصمود ليس فعلًا دفاعيًا، بل فعل خلق وإصرار على الحياة.
تاريخ سوريا ليس سردًا لأحداث متعاقبة، بل هو نسيج حي من التجربة الإنسانية، حيث يتداخل الألم مع الأمل، والانكسار مع النهوض. إنه ليس مجرد سجل للحروب والتحولات السياسية، بل مرآة لصمود الإنسان في وجه الزمن، حيث تتحول الأرض إلى ذاكرة، والهوية إلى فعل مقاومة. على مدى عشرة آلاف عام، لم تكن سوريا مجرد مسرح للحضارات، بل كانت ذاتها إحدى الشخصيات الفاعلة في هذا المسرح، تنهض كلما سقطت، وتعيد تشكيل ذاتها كلما تكسرت.
من أوغاريت، حيث وُلدت الأبجدية، إلى تدمر التي جمعت بين التجارة والفن، ومن دمشق التي تنبض بالحياة منذ آلاف السنين، يتجلى أن سوريا لم تكن يومًا هامشًا في التاريخ، بل كانت مركزًا لإنتاج المعنى. الحضارات التي مرّت لم تُلغِ ما قبلها، بل أضافت إليه، كما تُضاف طبقات الطين إلى جدار واحد، ليصبح أكثر صلابة. هذا التراكم لم يكن مجرد تكديس، بل كان بناءً متجددًا، حيث تتفاعل العناصر القديمة مع الجديدة، لتنتج هوية مرنة، قادرة على امتصاص الصدمات وتحويلها إلى قوة.
الفلسفة الكامنة في هذا التاريخ هي فلسفة الاستمرارية. ليست الاستمرارية بمعناها الزمني فقط، بل بوصفها فعلًا وجوديًا: أن تبقى، أن تصمد، أن تعيد بناء نفسك رغم كل شيء. الغزاة مرّوا: الآشوريون، الفرس، الرومان، المغول، العثمانيون، الفرنسيون، لكن الشعب بقي. لم يكن البقاء مجرد نجاة جسدية، بل كان حفاظًا على جوهر الهوية، على اللغة، الطقوس، والعلاقات التي تُعيد إنتاج الذات الجماعية. كما في الأسواق القديمة، حيث تتجاور المهن، أو في الأحياء الدمشقية، حيث تتداخل الأديان، يتجلى أن سوريا ليست مجرد جغرافيا، بل روح قادرة على التكيف دون أن تفقد ملامحها.
في العصر الحديث، ومع الثورة السورية، عاد التاريخ ليُختبر من جديد. ملايين السوريين فقدوا بيوتهم، أحبّاءهم، مدنهم، لكنهم لم يفقدوا قدرتهم على الحلم. كما في تجربة التعليم البديل في إدلب، أو المبادرات الثقافية في الشتات، يتجلى أن الصمود ليس شعارًا، بل ممارسة يومية: أن تُعيد تنظيم حياتك، أن تُربّي أطفالك على الأمل، أن تكتب، أن تتعلم، أن تزرع، رغم أن كل شيء من حولك ينهار. هذا الصمود لا يُقاس بالنجاة فقط، بل بالقدرة على الاحتفاظ بالمعنى، على تحويل الألم إلى دافع، واليأس إلى تأمل.
من منظور فلسفي، يمكن اعتبار تاريخ سوريا تجسيدًا لما يسميه نيتشه “إرادة القوة”، لا بوصفها تسلطًا، بل بوصفها قدرة على الخلق من قلب الانهيار. كما في تجربة المدن التي أعادت تنظيم نفسها تحت الحصار، أو في قصص الأفراد الذين حوّلوا فقدانهم إلى فعل ثقافي، يتجلى أن التاريخ ليس ماضٍ ساكن، بل معلم أخلاقي، يُعيد تشكيل الوعي، ويُذكّر الأجيال بأن الهوية لا تُمنح، بل تُبنى بالصراع، بالمرونة، وبالإصرار على الحياة.
هذا الدرس لا يخص السوريين وحدهم. إنه رسالة للعالم: أن الحضارة ليست رفاهية مستقرة، بل مشروع دائم، يتطلب التضحية، الصبر، والإيمان بالمستقبل. كما في تجربة اللاجئين الذين أعادوا بناء مجتمعاتهم في المنافي، أو في الحوارات الفكرية التي نشأت في المخيمات، يتجلى أن الإنسان لا يُقاس بما يملكه، بل بما يصمد أمامه. وسوريا، بهذا المعنى، ليست فقط بلدًا، بل رمزًا، درسًا حيًا في أن الصمود الإنساني هو أعظم انتصار يمكن أن يحققه شعب في مواجهة الزمن والتحديات.
حسان دالاتي، استنبول 14/7/2012

















Leave a Comment
Your email address will not be published. Required fields are marked with *