تُحلل المقالة تجربة شكري القوتلي بوصفها نموذجاً للجمع بين الواقعية السياسية والفكر الوطني. تُدمج أمثلة من سياساته التعليمية، موقفه من الوحدة، وخطابه السياسي، وتُربط بفكر هابرماس حول الشرعية والحوار. المقالة تُعيد تعريف الهوية الوطنية بوصفها ممارسة حضارية، لا مجرد انتماء رمزي، وتُبرز دور القيادة في صياغة وعي جماعي مستدام.
شكري القوتلي، أول رئيس منتخب للجمهورية السورية الحديثة، لا يُختزل في منصب أو مرحلة سياسية، بل يُمثّل تجربة فريدة في الجمع بين الواقعية السياسية والفلسفة الوطنية العميقة. في عصر شهد تحولات هائلة بعد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، كان القوتلي يتعامل مع مجتمع متنوع، يحاول بناء هوية وطنية جامعة، مع الحفاظ على وحدة الدولة والاستقرار السياسي. تجربته لم تكن مجرد إدارة للسلطة، بل محاولة صادقة لترجمة مفهوم الهوية الوطنية إلى سياسات ملموسة تؤثر في المجتمع السوري بأسره.
القوتلي لم ينظر إلى الدولة كسقف سياسي فحسب، بل كمشروع حضاري يستند إلى وعي المواطن بتاريخ بلده وثقافته المشتركة. خلال فترة رئاسته، واجه تحديات كبيرة تتعلق بالانقسامات الطائفية، النزعات الإقليمية، والتأثيرات الأجنبية. لكنه آمن أن الهوية الوطنية لا تُبنى بالشعارات، بل بالممارسة اليومية للواجب، وبالمشاركة الفاعلة في صياغة المستقبل. كما عبّر في خطابه بعد انتخابه عام 1943، فإن “الحرية لا تُمنح، بل تُصان بالوعي”، وهو بذلك يربط بين السياسة والوعي الجمعي.
من الناحية الفكرية، كان القوتلي يعتقد أن الهوية الوطنية هي منظومة قيم وسلوكيات يومية تحدد علاقة الفرد بالمجتمع والدولة. اهتمامه بتعزيز التعليم، دعم الصحافة، وبناء مؤسسات الدولة يعكس فهمه العميق لأن الهوية الوطنية تتشكل من المشاركة المدنية، لا من الانتماء العاطفي فقط. كما في دعمه لإنشاء جامعة دمشق وتوسيع المدارس الريفية، يتجلى إدراكه بأن بناء الإنسان هو شرط لبناء الوطن.
القوتلي أيضاً أدرك أهمية التوازن بين التراث والحداثة. لم يكن منغلقاً على الماضي، لكنه شدد على أن الانفتاح يجب أن يستند إلى جذور حضارية قوية، بحيث يتم استيعاب التجديد دون فقدان الهوية الثقافية. كما في موقفه من الوحدة مع مصر عام 1958، حيث تنازل عن الحكم لصالح جمال عبد الناصر، نرى كيف قدّم مصلحة الأمة على السلطة، مؤمناً بأن الهوية القومية تتجاوز الحسابات الشخصية. هذه الرؤية تُظهر فلسفة عميقة توازن بين الاستمرارية والتغيير، بين الأصالة والتجديد، وتضع الإنسان السوري في قلب المشروع الوطني.
من منظور عملي، تجربة القوتلي تقدم نموذجاً لإدارة الهوية الوطنية في ظروف معقدة، حيث يجب على القائد أن يكون وسيطاً بين الماضي والحاضر، بين الفرد والمجتمع، وبين الرؤية الوطنية والواقع السياسي المتقلب. السياسة، في نظره، ليست مجرد صراع على السلطة، بل عملية بناء مستدامة للوعي الجمعي، وحماية للقيم المشتركة التي تجمع الشعب في كيان واحد. كما يقول الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، فإن “الشرعية السياسية تُبنى بالحوار”، والقوتلي كان من القلائل الذين فهموا أن الحوار الوطني هو أساس الاستقرار.
يمثل شكري القوتلي حالة فريدة من القادة الذين جمعوا بين الفلسفة السياسية والواقعية العملية. تجربته تقدم درساً عميقاً حول كيفية صياغة هوية وطنية متينة، توازن بين التاريخ والحاضر، بين الفرد والأمة، وبين القيم الحضارية ومتطلبات الدولة الحديثة. من خلال تحليل سياسته وفلسفته، يمكن فهم كيف أن الهوية الوطنية ليست مجرد شعارات، بل مشروع حضاري قائم على المعرفة، الالتزام، والمشاركة الفعلية في بناء المجتمع والدولة.
حسان دالاتي، 7/5/2006

















Leave a Comment
Your email address will not be published. Required fields are marked with *