تُعيد المقالة رسم صورة سوريا بوصفها مهداً للحضارات وفضاءً فلسفياً لتجربة الإنسان عبر الزمن. تُدمج أمثلة تاريخية من أوغاريت، إيبلا، ماري، وتل أبو هريرة، وشخصيات فكرية مثل بول ريكور، أنطون سعادة، وإدوارد سعيد، لتوضيح كيف يتداخل الماضي بالحاضر. المقالة تُبرز أن الهوية السورية ليست مجرد سردية تاريخية، بل مشروع حضاري مستمر
سوريا ليست مجرد دولة جغرافية، بل هي حضارة متجذّرة، تجربة إنسانية متراكمة على مدى آلاف السنين. منذ عشرة آلاف عام، كانت هذه الأرض مركزاً للزراعة الأولى، وموطناً للحضارات التي وضعت أسس المعرفة الإنسانية. من تل أبو هريرة وتل المريبط حيث بدأت الزراعة المنظمة، إلى أوغاريت التي قدّمت أول أبجدية مكتوبة، ومن ماري التي طوّرت أنظمة الحكم والإدارة، إلى دمشق التي بقيت مأهولة منذ آلاف السنين، تتجلى سوريا بوصفها مرآة للتجربة الإنسانية نفسها، لا مجرد مسرحٍ للأحداث.
إن التأمل في تاريخ سوريا يدفعنا إلى فهم أن الحضارة ليست مجرد إنجازات مادية، بل تراكم معرفي وثقافي يشكّل وعي الإنسان ويحدد طريقة تفاعله مع العالم. أولى القرى الزراعية، الأنظمة الإدارية، الابتكارات الهندسية، وحتى فنون التعبير الفني، كلها كانت نتاجاً لسعي الإنسان السوري لفهم بيئته، وفرض إرادته على الطبيعة. كما في النقوش الآرامية التي عبّرت عن الهوية والسلطة، أو في الموسيقى الفينيقية التي أثّرت في ثقافات المتوسط، فإن سوريا كانت مختبراً لتجارب الإنسانية، حيث تتجسد فيه قدرة الإنسان على التعلم من الطبيعة، وتطوير أساليب حياة جديدة تعود بالنفع على البشرية جمعاء.
الحضارة السورية علمتنا أيضاً درساً فلسفياً عن الزمن والارتباط بين الماضي والحاضر. ما قدمه السوري القديم من لغة، موسيقى، أو نظم اجتماعية لم يعد مجرد إرث، بل قاعدة يبني عليها الحاضر مستقبله. كما في اكتشافات إيبلا التي كشفت عن أرشيف إداري متكامل يعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، فإن كل نص قديم يروي قصة الإنسان الذي حاول أن يفهم نفسه والعالم من حوله، وهو نفس السعي الذي يقوم به السوري المعاصر في إعادة بناء مجتمعه وهويته الوطنية بعد صراعات معقدة. وكما يقول بول ريكور، فإن “الذاكرة ليست مجرد استعادة للماضي، بل فعل تأسيسي للحاضر”، وهذا ما يجعل من دراسة الحضارة السورية ضرورة لفهم الذات الوطنية.
في العصر الحديث، لا يمكن فصل التطورات الاجتماعية والسياسية عن هذا الإرث العميق. الهوية السورية اليوم ليست مجرد فئة عرقية أو سياسية، بل هي امتداد لمكانة سوريا كمركز حضاري عالمي، حيث الفكر، الفنون، والابتكار كانت دائماً عناصر مركزية في تشكيل المجتمع. من مساهمات ميخائيل نعيمة في الفكر العربي، إلى إبداعات فاتح المدرّس في الفن التشكيلي، ومن كتابات أنطون سعادة في فلسفة الأمة، إلى نضالات رزان زيتونة في الدفاع عن الحقوق، تتجلى سوريا بوصفها فضاءً حضارياً حياً، لا مجرد تاريخ ساكن.
من هنا، فإن دراسة الحضارة السورية ليست مجرد دراسة تاريخية، بل محاولة لفهم جذور القوة الفكرية والثقافية للشعب السوري، وفهم كيف يمكن لهذه الجذور أن تشكّل حاضر الأمة ومستقبلها. كما في تجربة إعادة إحياء الصناعات اليدوية في دمشق القديمة، أو في المبادرات الثقافية في اللاذقية والسويداء، فإن الحاضر السوري يستدعي الماضي لا ليُقلّده، بل ليُعيد تأويله.
واختم بالقول، سوريا هي تجربة إنسانية متواصلة، من القرى الأولى على ضفاف الفرات إلى المدن الحديثة، من اختراعات الزراعة الأولى إلى الإسهامات العلمية والفكرية المعاصرة. فهم هذا المسار ليس فقط عملاً أكاديمياً، بل هو تأمل فلسفي في معنى الحضارة، واستلهام الدروس التي يمكن أن توجه الأمة السورية نحو مستقبل مستدام، مستنداً إلى هويتها العميقة وقدرتها على الإبداع والصمود. وكما يقول إدوارد سعيد، فإن “الهوية تُصاغ في لحظات المقاومة”، وسوريا، بتاريخها وحاضرها، تظل منارةً لفهم الإنسان، وتحدياً مفتوحاً أمام العالم.
حسان دالاتي، 18/1/2009

















Leave a Comment
Your email address will not be published. Required fields are marked with *