التاريخ السوري العريق يواصل تشكيل حاضرها السياسي، من الحضارات القديمة إلى صراعات اليوم، حيث تتشابك الذاكرة الوطنية مع محاولات إعادة بناء الدولة الحديثة
سوريا ليست مجرد دولة حديثة وُلدت من رحم اتفاقيات القرن العشرين، بل هي فضاء حضاري عميق، تتقاطع فيه الأزمنة، وتتشابك فيه الجغرافيا مع الوعي الجمعي. إنها دفتر التاريخ المفتوح، لا بوصفها شاهداً على الأحداث، بل بوصفها صانعة لها، ومُشكّلة للفكر السياسي والاجتماعي منذ فجر الحضارات.
منذ أن احتضنت هذه الأرض السومريين والفينيقيين، ثم الآراميين والرومان، كانت سوريا مركزاً للتفاعل بين السلطة والمعرفة، بين الدين والسياسة، وبين الإنسان والمكان. لم تكن مجرد مسرحٍ للحضارات، بل كانت عقلها المدبّر، تُعيد إنتاج المفاهيم، وتُصدّر نماذج الحكم، وتُشكّل الوعي الذي ما زال يُلقي بظلاله على الحاضر. ويكفي أن نتأمل كيف أن التنظيمات الزراعية الأولى في وادي الفرات لم تكن مجرد أنشطة اقتصادية، بل كانت نواة أولى لفهم السلطة وتوزيعها، تماماً كما كانت المدن الآرامية المستقلة نموذجاً مبكراً للحكم المحلي الذي يوازن بين المركزية والخصوصية، وهي تقاليد ما زالت تُلقي بظلالها على النقاشات المعاصرة حول اللامركزية في سوريا.
الحاضر السياسي السوري ليس حدثاً طارئاً، بل هو امتدادٌ لتفاعلات مركّبة بين إرثٍ حضاريٍّ غنيٍّ وصراعاتٍ سلطوية متجددة. كل قرار يُتخذ في دمشق اليوم يحمل في طيّاته صدى آلاف السنين: من شبكات التجارة التي ربطت الساحل السوري بالأناضول ومصر، إلى نماذج الحكم المحلي في تدمر وبصرى، وصولاً إلى الانقسامات الإدارية في العهد العثماني، ثم إلى الدولة الحديثة التي وُلدت من رحم الانتداب والصراع. حتى في لحظات الانكسار، كما في تجربة الوحدة مع مصر عام 1958، كان التاريخ حاضراً بقوة: فالحلم القومي الذي غذّته الذاكرة العربية اصطدم بواقع إداري وسياسي غير ناضج، فانكسر الحلم، لكن بقيت جذوره حيّة في الوعي الجمعي.
إن قراءة الحاضر السوري دون استحضار هذه الطبقات التاريخية تُفضي إلى فهم مبتور. فالأزمات المعاصرة من النزاعات الداخلية إلى التدخلات الخارجية؛ لا يمكن تفكيكها دون العودة إلى جذورها، حيث تتكرّر الأنماط، وتُعاد صياغة التحديات. كما أن مقاومة الاستعمار الفرنسي لم تكن مجرد رد فعل سياسي، بل كانت امتداداً لتقاليد المقاومة التي عرفتها سوريا منذ العهد الروماني، حين كانت المدن تُقاوم الهيمنة المركزية وتُطالب بحقوقها المحلية.
الوعي الشعبي السوري اليوم هو حصيلة تجربة تراكمية: من البناء والانهيار، من الثورة والانكفاء، من الحلم القومي إلى الانقسام الطائفي، ومن مقاومة الاستعمار إلى مواجهة الاستبداد. في هذا السياق، السياسة ليست مجرد لعبة مصالح، بل هي مرآةٌ لفهم النفس الوطنية، وتجسيدٌ لإرادة الشعب في مواجهة التاريخ لا الهروب منه. كما عبّر ميشيل عفلق عن التاريخ بوصفه مصدراً للنهضة، لا مجرد سردية، فإن سوريا اليوم تُعلّمنا أن الهوية الوطنية ليست شعاراً، بل مشروعٌ فلسفيٌّ متجدد. عفلق لم يرَ في الماضي عبئاً، بل طاقة كامنة، يمكن استثمارها لبناء وعي قومي يتجاوز الانتماءات الضيقة، ويُعيد تشكيل السياسة بوصفها تعبيراً عن إرادة حضارية.
بهذا الفهم، يمكن للسوريين اليوم أن يُعيدوا بناء السياسات على أسسٍ تراعي الجذور، وتستجيب لتطلعات العصر، في تجربةٍ متكاملةٍ بين الماضي والحاضر والمستقبل. فالتاريخ هنا ليس مجرد خلفية، بل هو فاعلٌ حيّ، يُعيد تشكيل الحاضر، ويُرشد المستقبل. كما يُشير هايدغر في مفهومه عن “الزمن السياسي”، فإن الحاضر لا يُفهم إلا من خلال الذاكرة، والقرار السياسي لا يُولد من فراغ، بل من إدراكٍ عميقٍ لتراكمات الوجود التاريخي. بهذا المعنى، فإن السياسة السورية ليست فقط استجابة للواقع، بل هي إعادة تموضع للذات في الزمن.
حسان دالاتي، 10/4/2019

















Leave a Comment
Your email address will not be published. Required fields are marked with *