تُعيد المقالة تعريف الموسيقى السورية القديمة بوصفها تجربة حضارية وفلسفية، لا مجرد فن. تُدمج معلومات دقيقة عن نوتة أوغاريت، وتُبرز دور مالك جندلي في إحيائها، إلى جانب إياد الريماوي. تُستحضر شخصيات مثل الفارابي، وتُربط الموسيقى بالطقوس، الزراعة، والهوية الجماعية. المقالة تُظهر أن سوريا كانت أول من نظّم الصوت في التاريخ، وأن هذا الإرث ما يزال حياً في الوجدان السوري.
الموسيقى ليست مجرد أصوات، بل هي لغة الروح، تعبير عن المشاعر الإنسانية، وترجمة للتجربة الجمعية للشعوب. في سوريا القديمة، كانت الموسيقى أكثر من فن؛ كانت أداة للتواصل الروحي، والاحتفال بالزراعة، والطقوس الدينية، وحتى للتعليم. اكتشاف نوتة أوغاريت الموسيقية، قبل أكثر من 3400 سنة، يُعد شهادة على عبقرية الإنسان السوري في تنظيم الأصوات وتحويلها إلى نظام يمكن نقله وتداوله، وهي تُعتبر أول سجل معروف للتركيب الموسيقي في تاريخ البشرية2.
هذه النوتة، المدونة على رقيم طيني يُعرف بـ H-6، كُتبت باللغة الحورية، وتُصوّر نشيداً تتضرع فيه امرأة إلى إلهة القمر “نيكال” بسبب عقمها. النوتة تعتمد سلماً موسيقياً من سبع علامات، وتُظهر أن السوريين القدماء لم يكتفوا بالعزف، بل سعوا إلى تدوين اللحن، مما يعكس فهماً عميقاً للعلاقة بين الصوت والزمن، وبين الإيقاع والمعنى.
نوتة أوغاريت لم تكن مجرد تدوين للألحان، بل تعكس فلسفة الحياة السورية القديمة: التنظيم، التكرار، والانسجام بين العناصر المختلفة لتحقيق تجربة متكاملة. استخدمت هذه النوتة في الطقوس الدينية، الاحتفالات الزراعية، وتعليم الموسيقى للأجيال، مما يؤكد أن الموسيقى كانت جزءاً من الحياة اليومية والثقافة الجماعية، وليست ترفاً لفئة معينة. كما يقول إرنستو راميريز من اليونسكو، فإن “الموسيقى التقليدية تُعاد خلقها باستمرار، لكنها تتلاشى حين يُجبر الناس على التركيز فقط على البقاء”.
الموسيقى هنا ليست مجرد فن، بل أداة اجتماعية وفكرية. فهي ربطت بين الفرد والمجتمع، بين الإنسان والكون، وبين الحاضر والمستقبل. في المعابد والأماكن العامة، كانت الموسيقى تصاحب الطقوس الزراعية والدينية، لتأكيد الروابط بين الإنسان والطبيعة والإله. هذه العلاقة تكشف فلسفة عميقة حول دور الفن في تشكيل الوعي الجمعي والحفاظ على الهوية الثقافية، كما عبّر عنها الفارابي في كتابه “الموسيقى الكبير”، حين اعتبر أن النغم هو وسيلة لتنظيم النفس قبل أن يكون وسيلة للمتعة.
الأثر الحضاري لنوتة أوغاريت تجاوز حدود سوريا، حيث أثرت على الموسيقى في بلاد ما بين النهرين، وامتدت تأثيراتها إلى العصر اليوناني والروماني. بهذا المعنى، سوريا ليست مجرد مصدر محلي للثقافة، بل مركز حضاري ساهم في تشكيل الموسيقى الإنسانية كفن عالمي. وقد أعاد الموسيقي السوري مالك جندلي إحياء هذه النوتة في عمله “أصداء من أوغاريت”، حيث قدّم رؤيته اللحنية للنشيد الأوغاريتي موزعة للبيانو والأوركسترا، بالتعاون مع الأوركسترا الفيلهارمونية الروسية، في تسجيل صدر عام 2008.
الموسيقى السورية القديمة تعلمنا درساً فلسفياً عن الاستمرارية: أن المعرفة والفن يمكن أن يكونا جسوراً بين الأجيال، وسُبلاً للحفاظ على الهوية وسط التغيرات التاريخية والسياسية. كما في تقديم إياد الريماوي لترنيمة أوغاريت في معرض إكسبو دبي 2020، حيث استُخدمت الموسيقى لتجسيد قصة إنسانية عابرة للزمن.
واختم بالقول أن الموسيقى السورية القديمة والنوتة الأولى ليست مجرد إرث ثقافي، بل تجربة فلسفية تعكس عمق العقل السوري وقدرته على التعبير عن المشاعر، تنظيم المعرفة، وربط الإنسان بالمجتمع والطبيعة. من تدوين النغمات إلى الحفاظ على الثقافة الموسيقية عبر العصور، تظل سوريا مثالاً حياً لكيف يمكن للفن أن يكون أداة للحضارة، ونواة للهوية الوطنية، ومرآة للفكر الإنساني العميق.
حسان دالاتي، دبي 18/5/2024

















Leave a Comment
Your email address will not be published. Required fields are marked with *