تُبرز المقالة سوريا بوصفها منبعاً للفكر الإنساني، من الأبجدية الأوغاريتية إلى الطب والفلك. تُدمج أمثلة من أوغاريت، إيبلا، ماري، وتل براك، مع شخصيات مثل ابن النفيس، أنطون سعادة، وجاك دريدا، لتوضيح كيف تحوّل الفكر السوري إلى بنية حضارية. المقالة تُعيد تعريف المعرفة بوصفها فعلاً جماعياً يؤسس للهوية ويُعيد تشكيل التاريخ
سوريا ليست مجرد جغرافيا أو حضارة تاريخية، بل هي منبع الفكر الإنساني والابتكار منذ آلاف السنين. على هذه الأرض، وُلد مفكرون وعلماء قدّموا للعالم مفاهيم أساسية في الفلسفة، الرياضيات، الفلك، والطب، مؤسسين لبنية معرفية شكلت أساس الحضارة الإنسانية. إن دراسة هؤلاء العلماء ليست استعراضاً تاريخياً، بل رحلة فلسفية لفهم كيف يمكن للفكر أن يبني الأمم، ويحوّل المعرفة الفردية إلى إرث جماعي خالد.
من أبرز الأمثلة على ذلك علماء أوغاريت والفينيقيين، الذين ساهموا في تطوير أول أبجدية مكتوبة في تاريخ البشرية. هذه الأبجدية، التي ظهرت في أوغاريت قبل أكثر من 3200 سنة، لم تكن مجرد ابتكار لغوي، بل أداة فلسفية لتحويل الفكر المعقد إلى رموز قابلة للتداول. كما أشار جاك دريدا، فإن “الكتابة هي لحظة تأسيس للذات”، وهؤلاء المفكرون السوريون فهموا أن تنظيم المعرفة وتسجيلها هو الطريق لبناء مجتمع متماسك ومتطور، حيث يصبح الفكر أداة للبناء لا مجرد تأمل.
في مجال الفلك والرياضيات، كان السوريون من أوائل من درسوا حركة النجوم والكواكب، ووضعوا قواعد لتقدير الوقت، الزراعة، والتقويم. في مواقع مثل تل براك وإيبلا، عُثر على ألواح طينية تُظهر حسابات فلكية دقيقة، مما يدل على فهم عميق للنظام الكوني. هذا الإدراك لم يكن علماً بحتاً، بل فلسفة حياة، إذ ربط الإنسان السوري بين السماء والأرض، بين الكون والمجتمع، وبين الطبيعة والتخطيط البشري. كما في تقويمات الزراعة التي اعتمدت على دورات القمر، فإن السوري القديم لم يكتف بالملاحظة، بل حوّلها إلى نظام معرفي قابل للتطبيق.
أما في الطب والعلوم الحيوية، فقد ساهم السوريون في وضع مبادئ تشخيص الأمراض ووصف العلاجات الطبيعية، مستفيدين من النباتات المحلية والمعرفة التقليدية. في أرشيفات ماري وإيبلا، نجد وصفات طبية دقيقة، وتعليمات لعلاج الحمى والجروح، مما يدل على ممارسة طبية واعية. هؤلاء العلماء لم يكتفوا بالممارسة، بل سعوا لفهم أسباب الظواهر المرضية وربطها بالملاحظة الدقيقة، كما فعل لاحقاً ابن النفيس، الذي وُلد في دمشق وكتب عن الدورة الدموية قبل أن تُكتشف في أوروبا بقرون.
الفلسفة العميقة وراء إنجازات المفكرين والعلماء السوريين تكمن في إدراكهم أن المعرفة ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة لبناء مجتمع واعٍ، مستعد للتكيف مع التغيرات البيئية والسياسية والاجتماعية. كما عبّر أنطون سعادة، فإن “الفكر هو فعل”، وكل ابتكار، كل نظام معرفي، وكل نص فلسفي، كان بمثابة حجر أساس لتكوين هوية جماعية، وإرساء أسس الحضارة الإنسانية.
لم يترك المفكرون والعلماء السوريون القدماء إرثاً من المعلومات فحسب، بل تركوا فلسفة كاملة للحياة: أن المعرفة قوة، وأن الفكر أداة لبناء الإنسان والمجتمع. من الأبجدية إلى الفلك، من الطب إلى الفلسفة، سوريا كانت ولا تزال مختبراً للفكر الإنساني، حيث تتجسد قدرة الإنسان على تحويل التجربة الفردية إلى إرث جماعي، وصياغة حضارة تنبض بالحياة عبر آلاف السنين.
حسان دالاتي، 6/9/2018

















Leave a Comment
Your email address will not be published. Required fields are marked with *