728 x 90

الفقر والاقتصاد: أثرهما على بنية المجتمع السوري

الفقر والاقتصاد: أثرهما على بنية المجتمع السوري
كيف أثّرت التحولات الاقتصادية على التعليم، الأسرة، والهويةحسان دالاتي

تُعيد المقالة تعريف الفقر والاقتصاد بوصفهما قوى بنيوية تُعيد تشكيل المجتمع السوري عبر التاريخ. تُبرز كيف أثّرت التحولات الاقتصادية على التعليم، الأسرة، والهوية، وتُدمج أمثلة من المدن والمخيمات والمبادرات المحلية. تُظهر أن الفقر ليس فقط غيابًا للموارد، بل اختبارًا للقدرة على التضامن، وإعادة بناء الذات الجماعية. المقالة تُعيد صياغة العلاقة بين المادة والمعنى، وتُبرز كيف أن الأزمات الاقتصادية يمكن أن تكون لحظات ولادة اجتماعية جديدة.

الفقر والاقتصاد ليسا مجرد متغيرين اجتماعيين، بل قوى بنيوية تُعيد تشكيل المجتمع من الداخل، وتؤثر في علاقاته، هياكله، ووعيه الجماعي. في سوريا، لعب هذان العاملان دورًا حاسمًا في صياغة البنية الاجتماعية عبر مراحل مختلفة من التاريخ، بدءًا من الاقتصاد الزراعي التقليدي، مرورًا بالتحولات الصناعية والتجارية، وصولًا إلى الانهيارات الاقتصادية التي رافقت النزاع السياسي المعاصر.

قبل الأزمة السورية، كان المجتمع السوري يتسم بتنوع اقتصادي واضح. المدن الكبرى مثل دمشق وحلب كانت مراكز تجارية نابضة، حيث ازدهرت الأسواق، الصناعات اليدوية، والتعليم، وشكّلت الطبقة الوسطى فيها ركيزة للاستقرار الاجتماعي. في المقابل، كانت المناطق الريفية مثل إدلب، درعا، والحسكة تعتمد على الزراعة الموسمية، وتعيش في ظل تفاوت اقتصادي واضح. هذا التباين خلق طبقات اجتماعية متمايزة، حيث كانت فرص التعليم، الصحة، والمشاركة السياسية مرتبطة بشكل مباشر بالوضع الاقتصادي للأسرة.

الفقر، في هذا السياق، لم يكن مجرد غياب للمال، بل غياب للفرص. الأسر الفقيرة كانت أقل قدرة على إرسال أبنائها إلى الجامعات، أو المشاركة في الحياة الثقافية، مما أدى إلى تهميش اجتماعي طويل الأمد. في المقابل، الطبقات المتعلمة والمتوسطة كانت أكثر قدرة على التأثير في المجال العام، كما في النقابات، الصحافة، والمجتمع المدني، مما عزز دورها في تشكيل الهوية الوطنية.

مع اندلاع الثورة السورية، تحوّل الاقتصاد من عامل استقرار إلى عامل تفكك. انهيار البنية الاقتصادية، فقدان مصادر الدخل، وارتفاع معدلات البطالة، أدّى إلى تغييرات جذرية في العلاقات الأسرية والاجتماعية. النساء، كما في مخيمات اللجوء في لبنان والأردن، تولين أدوارًا قيادية داخل الأسرة، بينما اضطر الشباب إلى ترك التعليم والانخراط في أعمال غير مستقرة. هذه التحولات أعادت تشكيل الأدوار التقليدية، وخلقت نماذج جديدة من التكيف، تعكس قدرة المجتمع السوري على إعادة بناء ذاته تحت ضغط اقتصادي هائل.

الأزمة الاقتصادية أثرت أيضًا على التعليم، حيث أُغلقت مدارس، وتراجعت جودة التعليم الرسمي، مما خلق فجوة معرفية بين الأجيال. في الوقت نفسه، ظهرت مبادرات مجتمعية، كما في التعليم البديل في الغوطة الشرقية، أو المشاريع الصغيرة في إدلب، تعكس قدرة السوريين على الابتكار الاجتماعي، وتحويل الأزمة إلى فرصة لإعادة التنظيم.

من منظور فلسفي، الفقر والاقتصاد في سوريا يكشفان العلاقة العميقة بين المادة والهوية، بين الظروف المادية والقيم الاجتماعية. الضغط الاقتصادي لا يُنتج فقط معاناة، بل يُحفّز على التضامن، ويُعيد تشكيل الروابط الاجتماعية، كما في شبكات الدعم الأهلي التي نشأت في غياب الدولة. هذه التجربة تُظهر أن الأزمات ليست فقط لحظات انهيار، بل لحظات ولادة جديدة، حيث يُعاد التفكير في معنى الجماعة، المسؤولية، والانتماء.

الفقر في سوريا لم يكن دائمًا عامل تفكك، بل كان في كثير من الأحيان دافعًا لإعادة بناء الذات الجماعية. كما في تجربة الأسواق الشعبية التي أعادت تنظيم الاقتصاد المحلي، أو في التعاونيات الزراعية التي نشأت في مناطق النزاع، يتجلى أن الاقتصاد ليس مجرد أرقام، بل بنية أخلاقية واجتماعية تُعيد تشكيل المجتمع من الداخل.

ختامًا، الفقر والاقتصاد في سوريا ليسا مجرد عناصر مؤثرة، بل محركات لإعادة صياغة العلاقات الاجتماعية، الهويات الجماعية، واستراتيجيات التكيف. هذه التجربة تقدم درسًا عميقًا حول قدرة المجتمعات على الصمود، الابتكار، وإعادة بناء الذات في مواجهة التحديات المتعاقبة، وتُظهر أن الاقتصاد ليس فقط مجالًا للتبادل، بل فضاء لإعادة تعريف الإنسان والمجتمع.

حسان دالاتي، 10/12/2019

Hassan Dalati
ADMINISTRATOR
PROFILE

Posts Carousel

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

Latest Posts

Top Authors

Most Commented

Featured Videos

Tags

أنطون سعادة أوغاريت أوغاريت وأبجدية العالم إدوارد سعيد إعادة بناء الهوية الصمود الثقافي والاجتماعي إيبلا وتاريخ الإدارة الأمة السورية التاريخ الثقافي السوري التجربة السورية التحولات الاجتماعية في سوريا التحولات السياسية في سوريا التضامن في زمن الأزمة التعليم البديل في سوريا الثورة السورية الحاضر السياسي السوري الحرية السياسية العربية الحضارات السورية القديمة الحضارة السورية القديمة الديمقراطية في سوريا الذاكرة الحضارية الزراعة الأولى في سوريا الشتات السوري الطيب تيزيني العدالة الانتقالية الفلسفة الاجتماعية السورية الفلسفة والمقاومة الفن السوري الحديث المبادرات المجتمعية المجتمع السوري قبل الثورة المقاومة الإنسانية النزوح والهجرة السورية النساء المعيلات الهوية الوطنية السورية بول ريكور جان بول سارتر والحرية داريا والمقاومة الثقافية سوريا مركز حضاري عالمي صمود الشعب السوري عبد الرحمن الكواكبي عزمي بشارة غرامشي وتفاؤل الإرادة فلسفة البعث ميشيل عفلق ميشيل فوكو والسلطة يورغن هابرماس