تُحلل المقالة العلاقات الأسرية السورية بوصفها مرآة لتحولات المجتمع، وتُدمج أمثلة من المدن والمخيمات، مع مفاهيم فلسفية من ليفيناس. تُبرز كيف أعادت الأسرة تشكيل ذاتها في ظل الأزمة، وكيف تحوّلت من بنية تقليدية إلى فضاء للتجديد والصمود. المقالة تُعيد تعريف الأسرة بوصفها مركزًا حضاريًا يعكس التفاعل بين التراث والحداثة
العائلة في المجتمع السوري لطالما كانت أكثر من مجرد وحدة اجتماعية، فهي مركز القيم، الحاضنة الأولى للهوية، والفضاء الذي تتشكل فيه العلاقة بين الفرد والمجتمع. عبر التاريخ، كانت الأسرة السورية تقوم على الاحترام المتبادل، التضامن، والتكافل، حيث يتعلم الأبناء من الكبار، وتنتقل التقاليد من جيل إلى جيل، ليس فقط عبر الكلام، بل عبر الممارسة اليومية. في المدن الكبرى مثل دمشق وحلب، كانت الأسرة الممتدة تضم الجد والجدة، الأبناء والأحفاد، في بيت واحد أو متجاور، مما خلق شبكات دعم قوية، ومجتمعًا صغيرًا داخل المجتمع الأكبر. في الأرياف، كما في جبل العرب وسهل الغاب، كانت العائلة تشكل وحدة إنتاجية أيضًا، حيث يعمل الجميع في الزراعة أو الحرف، ويتقاسمون المسؤوليات والقرارات.
قبل الثورة، كان هذا النموذج مستقرًا نسبيًا، رغم التحولات الاقتصادية والتحضر المتسارع. التعليم، خاصة في المدن، بدأ يغيّر بعض الأدوار داخل الأسرة، لكن بقيت القيم الأساسية حاضرة: احترام الكبير، التشاور في القرارات، والارتباط العاطفي العميق بين أفراد العائلة. الأم كانت مركزًا عاطفيًا وتربويًا، والأب غالبًا ما كان يمثل السلطة الاقتصادية والتنظيمية. في المناسبات الدينية والاجتماعية، كانت الأسرة تتجمع، وتعيد تأكيد روابطها، كما في رمضان، الأعياد، والأعراس، حيث تُمارس الطقوس الجماعية التي تعزز الهوية المشتركة.
مع اندلاع الأزمة السورية، تغيّرت هذه الصورة بشكل جذري. النزوح الداخلي، اللجوء الخارجي، فقدان المعيل، وتفكك البيوت، أدّى إلى إعادة تشكيل العلاقات الأسرية. في مخيمات اللجوء، كما في الزعتري أو عرسال، اضطرت النساء إلى تولي أدوار قيادية داخل الأسرة، بينما تحمّل الأطفال مسؤوليات مبكرة، كما في التعليم أو العمل. الأسر التي كانت ممتدة أصبحت نووية، أو حتى فردية، كما في حالات الأطفال غير المصحوبين بذويهم. هذه التحولات كشفت عن هشاشة النموذج التقليدي في مواجهة الأزمات، لكنها أظهرت أيضًا قدرة الأسرة السورية على التكيف، وإعادة بناء ذاتها في ظروف قاسية.
اليوم، العلاقات الأسرية السورية تتسم بتداخل بين القيم التقليدية ومتطلبات العصر الحديث. في الشتات، كما في ألمانيا أو تركيا، ظهرت أنماط جديدة من الأسر، حيث يلعب الشباب دورًا أكبر في اتخاذ القرارات، وتبرز الفردية بوصفها قيمة جديدة، لكنها لا تلغي تمامًا الروابط القديمة. في الداخل السوري، خاصة في المناطق التي شهدت استقرارًا نسبيًا، بدأت الأسر تعيد بناء نفسها، مستفيدة من المبادرات المجتمعية، كما في برامج الدعم النفسي للأطفال، أو المشاريع النسائية الصغيرة التي تعيد للأم دورها الاقتصادي والاجتماعي.
هذه التحولات ليست مجرد تغيرات سطحية، بل تعكس صراعًا فلسفيًا بين الاستمرارية والتجديد، بين السلطة التقليدية والحرية الفردية، وبين الانتماء الجماعي والتعبير الذاتي. الأسرة السورية، في هذا السياق، تقدم نموذجًا لفهم الصمود الاجتماعي: كيف يمكن للروابط الإنسانية أن تصمد أمام الأزمات، وتعيد تشكيل نفسها دون أن تفقد جوهرها. كما في تجربة الأسر التي أعادت لمّ شملها بعد سنوات من الشتات، أو تلك التي بنت شبكات دعم جديدة في بيئات غريبة، يتجلى أن العائلة ليست مجرد بنية اجتماعية، بل تجربة حضارية في التضامن، التكيف، وإعادة بناء الهوية.
دراسة العلاقات الأسرية في ظل التغيرات الاجتماعية تكشف عن ديناميكية المجتمع السوري، وعن قدرته على تحويل الأزمة إلى فرصة، والتقاليد إلى أدوات للتجديد. الأسرة، في هذا المعنى، ليست فقط مرآة للمجتمع، بل محرك له، ومصدر لإعادة إنتاج القيم، وإعادة بناء الذات الجماعية في زمن الانكسار. إنها الحاضنة التي لم تتخلّ عن دورها، حتى حين تفكّكت الدولة، وتظل اليوم رمزًا للقدرة على إعادة البناء من الداخل.
حسان دالاتي، 6/8/2022

















Leave a Comment
Your email address will not be published. Required fields are marked with *