الزراعة ليست مجرد وسيلة للحصول على الغذاء، بل هي النقلة النوعية التي مكنت الإنسان من الانتقال من مرحلة البداوة والصيد إلى بناء المجتمعات المستقرة والحضارات المنظمة. في سوريا القديمة، وبالتحديد في منطقة الهلال الخصيب، ظهرت أولى القرى الزراعية قبل أكثر من عشرة آلاف عام، حيث بدأت التجربة الإنسانية في تحويل البيئة الطبيعية إلى فضاء يمكن التحكم فيه، وتوفير الأمن الغذائي، وبناء المجتمع على أساس من التعاون والتنظيم.

في مواقع مثل تل أبو هريرة وتل المريبط، وامتداداً إلى تل براك وتل حلف، ظهرت أولى علامات الزراعة المنظمة، حيث بدأ الإنسان السوري بزراعة القمح والشعير، وتدجين الحيوانات، وتطوير أدوات الزراعة الحجرية. هذه الثورة الزراعية لم تكن مجرد اكتشاف تقني، بل كانت ثورة فكرية وحضارية. إذ أدرك الإنسان السوري أن الزراعة تتطلب تخطيطاً، مراقبة، وتنظيماً اجتماعياً، فأُنشئت أنظمة ري بدائية، وتطورت طرق تخزين الحبوب، وظهرت تقسيمات العمل الأولية التي ساعدت على تشكيل المجتمعات المعقدة.

كما في آثار أريحا المجاورة، وتل الحمام، حيث عُثر على تجهيزات للري وتخزين الحبوب، يتضح أن الزراعة كانت فعلاً معرفياً، لا مجرد نشاط يدوي. كما يقول كارل بوبر، فإن “الحضارة تبدأ حين يتحول العمل إلى معرفة”، وهذا ما جسّدته الزراعة السورية المبكرة، حين تحوّل الفعل الزراعي إلى نظام اجتماعي واقتصادي متكامل.

الفلسفة وراء الزراعة السورية القديمة تكمن في فهم العلاقة بين الإنسان والطبيعة. فالمزارع لم يكن مجرد منفذ عمل، بل مفكر يدرس الأرض، يتنبأ بالمواسم، ويخطط لإنتاج غذائي مستدام. هذا الإدراك المبكر للأنظمة الطبيعية والاعتماد على المعرفة الجماعية أسس للفكر المنظم، وأصبح الزراعة أساساً للمدن الأولى، للكتابة، وللتجارة. كما في مدينة أوغاريت، التي ربطت الزراعة بالتجارة البحرية، وابتكرت أول أبجدية مكتوبة لتوثيق المعاملات، فإن الزراعة كانت نواة لكل تطور لاحق.

كما أن الزراعة ساهمت في تشكيل العلاقات الاجتماعية والسياسية. بفضلها، ظهرت فكرة الملكية، الهياكل الإدارية، والتعاون بين أفراد المجتمع لضمان توزيع الموارد. هذه التجربة أثرت لاحقاً في تكوين أولى المدن السورية، وجعلت المنطقة مركزاً حضارياً عميق التأثير على المجتمعات المجاورة، بما في ذلك بلاد ما بين النهرين ومصر القديمة. كما أشار جوردون تشايلد، فإن “الثورة الزراعية هي الشرارة التي أطلقت الحضارة”، وسوريا كانت من أوائل من أشعل هذه الشرارة.

الزراعة السورية أيضاً تمثل درساً فلسفياً عن التحول والتكيف. فهي تعلمنا أن الإنسان قادر على تحويل التحديات البيئية إلى فرص، وأن الحضارة الحقيقية تبدأ من فهم الطبيعة، وليس مجرد الاستسلام لها. كما في تجربة إعادة إحياء الزراعة في المناطق المتضررة اليوم، من الغوطة إلى الجزيرة السورية، فإن هذا الدرس يعكس جوهر التجربة السورية: القدرة على الصمود والإبداع في مواجهة الظروف، وتحويل الموارد المحدودة إلى بنية حضارية متقدمة.

وبالحلاصة، الزراعة في سوريا القديمة ليست مجرد مهنة أو تقنية، بل تجربة فلسفية وثقافية تمثل بداية الحضارة الإنسانية. من تنظيم الأرض، إلى إدارة الموارد، إلى بناء المجتمعات المعقدة، تمثل سوريا نموذجاً حياً لتجربة الإنسان الأولى في فهم الطبيعة، والتكيف معها، وبناء مجتمع مستدام. إن هذا الإرث يظل حاضراً في الهوية السورية اليوم، في قدرة الشعب على الصمود، الابتكار، والحفاظ على حضارته في مواجهة التحديات المعاصرة.

حسان دالاتي، دبي 19/7/2023