تُعيد المقالة تعريف العنف بوصفه تجربة روحية ووجودية، لا مجرد فعل جسدي. تُدمج أمثلة من التجربة السورية، من الطفولة تحت القصف إلى المقاومة الأخلاقية، وتُربط بمفاهيم فلسفية مثل الذاكرة الجريحة لريكور، والصراع الداخلي للهوية. تُظهر أن العنف لا يُلغِي الإنسان، بل يُعيد تشكيله، وأن الصمود ليس فقط في الجسد، بل في الروح، في اللغة، وفي القدرة على إنتاج المعنى
العنف ليس مجرد فعل يقع على الجسد، بل هو اختراق للروح، زلزال داخلي يعيد تشكيل إدراك الإنسان لذاته وللعالم من حوله. في التجربة السورية، لم يكن العنف حدثًا عابرًا، بل كان زمنًا ممتدًا، يوميات ثقيلة، تُكتب بالدم وتُقرأ بالصمت. لم يكن هناك بيت إلا وطرق العنف بابه، ولا روح إلا وخدشها، تاركًا وراءه أسئلة لا تُجاب بسهولة: ما معنى أن أكون إنسانًا في عالم يتهاوى؟ كيف أحتفظ بكرامتي حين يُهان كل شيء؟
أول ما يفعله العنف هو كسر الإحساس بالأمان. حين يتحول المنزل إلى هدف، والمدرسة إلى ركام، والحي إلى ساحة قتال، يفقد الإنسان قدرته على الوثوق بالعالم. في سوريا، نشأ جيل على أصوات القصف بدلًا من أصوات الطيور، وعلى مشاهد الدم بدلًا من الألعاب. هذه الطفولة ليست مجرد مرحلة زمنية، بل هي تشكّل مبكر للوعي، حيث يُزرع الخوف في القلب قبل أن يتعلم الطفل كيف يتهجّى اسمه. هنا، لا يعود السؤال عن النجاة الجسدية، بل عن النجاة الروحية: كيف تحتفظ الروح ببراءتها وسط هذا الخراب؟
لكن العنف لا يكتفي بتشويه الخارج، بل يفرض على الإنسان معركة داخلية. حين يرى المرء الظلم، يُجبر على الاختيار: هل يستسلم لليأس أم يتمسك بالأمل؟ هل يرد بالعنف أم يحاول أن يظل وفيًا لقيمه؟ هذه ليست أسئلة سياسية، بل صراعات وجودية تمس جوهر الهوية. كثير من السوريين، رغم الألم، اختاروا المقاومة بالصبر، بالكلمة، وبالتمسك بالإنسانية. كما في تجربة المعتقلين الذين خرجوا ليكتبوا، لا لينتقموا، أو في قصص الأمهات اللواتي ربّين أطفالهن على الأمل رغم فقدان الأزواج، يتجلى أن العنف لا يستطيع إلغاء قدرة الإنسان على الاختيار.
الأثر الأخطر للعنف يكمن في الذاكرة. الصور التي تتراكم – النزوح، فقدان الأحبة، المدن المدمرة – لا تُمحى، بل تُخزّن في الوعي، وتُعاد إنتاجها في الأحلام، في اللغة، وفي السلوك. بول ريكور تحدث عن “الذاكرة الجريحة”، التي لا تنتهي بانتهاء الحدث، بل تعيش فينا، وتنتقل إلى الأجيال. في سوريا، هذه الذاكرة أصبحت جزءًا من الهوية، لكنها أيضًا حملت بذور الحكمة: أن الإنسان، مهما تعرض للعنف، قادر على حمل رسالته في الحياة، إذا ما وجد لغة للتعبير، ومساحة للتأمل.
من الناحية الوجودية، العنف يختبر حدود الروح. البعض وجد المعنى في التضحية، كما في حماية العائلة، أو في الإصرار على التعليم رغم الظروف. آخرون لجأوا إلى الدين أو الفلسفة، بحثًا عن عزاء روحي يخفف من ثقل الألم. كما في تجربة اللاجئين الذين أسسوا مدارس في المخيمات، أو في كتابات منفيين أعادوا تعريف الوطن، يتجلى أن العنف، رغم قسوته، قد يفتح الباب أمام تأملات عميقة في معنى الحياة والموت، وفي القيمة الحقيقية للإنسان.
ومع ذلك، يظل هناك خطر دائم: أن يتحول العنف إلى دائرة مفرغة، يعيد إنتاج نفسه عبر الأجيال. الطفل الذي شهد القصف قد يكبر وهو يحمل داخله غضبًا أو كراهية، ما لم يجد مسارًا للتصالح مع ذاكرته. لذلك، فإن مواجهة آثار العنف ليست مهمة سياسية فقط، بل مهمة روحية وفلسفية. إنها تتطلب ترميم الثقة، إعادة بناء اللغة، وخلق سردية جديدة لا تُعيد إنتاج الألم، بل تُحوّله إلى معرفة، إلى حكمة، إلى فعل مقاوم لا انتقامي.
واختم بالقول، ترك عنف نظام الأسد أثرًا عميقًا على الروح البشرية، لكنه كشف أيضًا عن قدرة الإنسان على المقاومة، على إنتاج معنى جديد للحياة وسط الركام. كما في قصص السوريين الذين أعادوا بناء حياتهم في المنافي، أو الذين كتبوا عن تجربتهم بدلًا من دفنها، يتجلى أن الروح، رغم الجراح، قادرة على الصمود. هذه القدرة، في جوهرها، هي ما يجعل الإنسان إنسانًا: أن ينهض، أن يتأمل، أن يختار ألا يكون مرآة للعنف، بل صوتًا للحياة.
حسان دالاتي، استنبول 18/10/2012

















Leave a Comment
Your email address will not be published. Required fields are marked with *