تُعيد المقالة تعريف الثورة السورية بوصفها تجربة فلسفية وجودية، تتجاوز السياسة لتطرح أسئلة عميقة حول الحرية، التضحية، والمعنى. تُدمج أمثلة واقعية من المدن، الشخصيات، والممارسات اليومية، وتُربط بمفاهيم فلسفية من هيغل، كامو، وأرسطو. تُظهر أن الثورة لم تكن لحظة انفجار، بل لحظة تأمل، حيث يُعاد تعريف الإنسان السوري بوصفه فاعلًا في التاريخ، لا مجرد متلقٍ له.
الثورة ليست لحظة انفجار سياسي، بل لحظة انكشاف وجودي. في الحالة السورية، لم تكن الثورة مجرد احتجاج على نظام أو مطالبة بحقوق، بل كانت صرخة فلسفية في وجه العبث، إعلانًا بأن الإنسان لا يُختزل في حاجاته، بل يُعرّف بحريته. منذ عام 2011، خرج السوريون إلى الشوارع لا ليطالبوا فقط، بل ليُعرّفوا أنفسهم من جديد: من نحن؟ وما الذي نستحقه؟ وما معنى أن نعيش أحرارًا في وطن لا يُعاملنا كغرباء؟
الحرية، كما فهمها السوريون في تلك اللحظة، لم تكن مجرد غياب للقيود، بل كانت فعلًا إيجابيًا: القدرة على قول “لا”، على اختيار المصير، على المشاركة في صياغة الحاضر. كما في مظاهرات درعا، حمص، ودوما، لم تكن المطالب مادية، بل كانت لغوية، رمزية، وجودية: “حرية”، “كرامة”، “الشعب يريد”. هذه الكلمات لم تكن شعارات، بل مفاهيم فلسفية خرجت من الكتب إلى الشوارع، من التأمل إلى الفعل، من الذات إلى الجماعة.
لكن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع، ولا تُنتزع إلا بثمن. والتضحية، في هذا السياق، لم تكن مجرد فقدان، بل كانت فعلًا فلسفيًا عميقًا. حين يختار الإنسان أن يُعرض نفسه للخطر من أجل فكرة، فإنه لا يفقد ذاته، بل يسمو بها. كما في قصة غياث مطر، الذي وزّع الماء والورد على الجنود، ثم قُتل تحت التعذيب، تتجلى التضحية بوصفها لحظة يتجاوز فيها الفرد ذاته، ليصبح جزءًا من حركة التاريخ، كما وصفها هيغل: الذوبان في المطلق، لا بوصفه إلغاءً للذات، بل تحقيقًا لها.
الجانب الاجتماعي للثورة كان بدوره فلسفيًا. القرى والمدن التي نظّمت نفسها في غياب الدولة، أنشأت مدارس، مستشفيات، ومجالس محلية، لم تكن تمارس السياسة فقط، بل كانت تُعيد تعريف المجتمع. كما في تجربة كفرنبل، التي تحوّلت إلى مركز للخطاب الفكري الساخر، أو في الغوطة الشرقية، حيث أُعيد تنظيم الحياة تحت الحصار، يتجلى أن الإنسان السوري لم يطالب فقط، بل بادر، أعاد بناء الجماعة، وأثبت أن الحرية لا تُعاش في عزلة، بل تُختبر في التضامن.
لكن الثورة لم تكن لحظة نقاء، بل لحظة مأساة أيضًا. حين يُقابل الحلم بالعنف، يصبح السؤال الفلسفي أكثر إلحاحًا: كيف نحافظ على إنسانيتنا وسط الدمار؟ كيف نُعيد بناء المعنى حين يُنهار كل شيء؟ البعض لجأ إلى التأمل، كما في كتابات ياسين الحاج صالح، التي حاولت أن تُعيد صياغة الثورة بوصفها تجربة فكرية. آخرون فقدوا الثقة، واعتبروا أن الألم تجاوز القدرة على الاحتمال. هذه الثنائية، بين الأمل واليأس، بين التضحية والخذلان، تُجسّد الطابع التراجيدي للثورة، حيث لا توجد إجابات سهلة، بل أسئلة مفتوحة.
ومع ذلك، ظل الأمل حيًا. كما قال كامو، فإن الثورة الحقيقية هي رفض العبث، والإصرار على الكرامة رغم عبثية الواقع. السوريون، في لحظاتهم الأكثر ظلمة، لم يتخلوا عن الحلم، بل أعادوا صياغته، كما في الأغاني، الجداريات، والمبادرات الثقافية التي نشأت في المخيمات وفي الشتات. الحرية، هنا، لم تكن انتصارًا سياسيًا، بل فعلًا يوميًا: أن تكتب، أن تتعلم، أن تربي أطفالك على الأمل، رغم كل شيء.
الثورة السورية، إذن، لم تكن حدثًا، بل تجربة فلسفية بامتياز. جمعت بين الحرية والتضحية، بين الفرد والجماعة، بين الألم والمعنى. علمتنا أن الحرية ليست شعارًا، بل مشروعًا، وأن التضحية ليست نهاية، بل بداية لمسار طويل، حيث يتحول الألم إلى حكمة، والدم إلى ذاكرة، والإنسان إلى كائن مسؤول عن مصيره، لا مجرد ضحية له.
حسان دالاتي، استنبول 2/11/2012

















Leave a Comment
Your email address will not be published. Required fields are marked with *