728 x 90

الاستقرار بعد الحرب: رؤية مستقبلية لسوريا

الاستقرار بعد الحرب: رؤية مستقبلية لسوريا
أي رؤية مستقبلية يجب أن تركز على إعادة إعمار المناطق المتضررة، تطوير القطاعات الإنتاجية، وتعزيز الاقتصاد المحلي حسان دالاتي

تُعيد المقالة تعريف الاستقرار بعد الحرب بوصفه مساراً فلسفياً واجتماعياً، لا مجرد حالة أمنية. تُدمج شخصيات فكرية مثل بول ريكور، عزمي بشارة، ويورغن هابرماس، وتُستحضر أمثلة واقعية من جنوب أفريقيا، حلب، والسويداء لتوضيح كيف يمكن لسوريا أن تبني مستقبلاً مستقراً عبر العدالة، الاقتصاد المحلي، والمصالحة المجتمعية. المقالة تُبرز أن الشعب هو الفاعل الأساسي في إعادة بناء الدولة.

الاستقرار بعد تحرير سوريا –وأمل ان يكون قريباً- ليس مجرد غياب القتال أو توقف الانقسامات، بل هو حالة مركّبة تتضمن الأمن الاجتماعي، التنمية الاقتصادية، الاستقرار السياسي، وإعادة بناء الهوية الوطنية. سوريا، بعد عقد طويل من الصراع المستمر، سوف تواجه تحدياً استثنائياً: كيف يمكن لشعب وأمة عاشت صدمات متلاحقة أن تتحول من حالة الطوارئ المستمرة إلى مجتمع قادر على تخطيط مستقبله بثقة ووعي؟ هذا السؤال ليس سياسياً بحتاً، بل فلسفياً وجودياً، لأنه يطرح مسائل عن معنى العدالة، الحرية، والكرامة الإنسانية في مرحلة ما بعد الحرب، كما طرحها بول ريكور حين اعتبر أن “الشفاء الجماعي يبدأ من الاعتراف بالجرح، لا من إنكاره”.

أول خطوة نحو الاستقرار هي إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع. أدت الصراعات الطويلة إلى انهيار المؤسسات، وتراجع الثقة في القدرة على الحكم العادل، سواء على المستوى المحلي أو الوطني. استعادة الثقة تتطلب عدالة انتقالية، مصالحة حقيقية، وشفافية في كل مستويات الحكم. كما في تجربة جنوب أفريقيا بعد نظام الفصل العنصري، حيث تحوّلت لجان الحقيقة والمصالحة إلى أدوات لإعادة بناء العقد الاجتماعي، فإن سوريا سوف تحتاج بعد انتصار الثورة إلى آليات مشابهة تُعيد الاعتبار للضحايا، وتُعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة. التاريخ السوري يعلمنا أن الاستقرار لا يُبنى بالقوة العسكرية فقط، بل بالاعتراف بالخطأ، وتقديم فرص متساوية لجميع المواطنين، بغض النظر عن الانتماءات الطائفية أو العرقية.

الجانب الاقتصادي يشكّل العمود الفقري لأي استقرار مستدام. سنوات الحرب أفرغت المدن من حياتها الاقتصادية، دمّرت البنية التحتية، وأثقلت كاهل المواطنين بالبطالة والفقر. لذا فإن أي رؤية مستقبلية يجب أن تركز على إعادة إعمار المناطق المتضررة، تطوير القطاعات الإنتاجية، وتعزيز الاقتصاد المحلي بحيث يصبح المجتمع قادراً على الاعتماد على نفسه دون التبعية الكاملة للمساعدات الخارجية. كما في تجربة مدينة حلب، التي بدأت فيها مبادرات شبابية لإحياء الصناعات التقليدية، فإن الاستقرار الاقتصادي ليس مجرد أرقام أو خطط، بل فلسفة حياة تُعيد للشعب شعور السيطرة على مصيره، وقدرته على الصمود في المستقبل.

التحدي الثالث يكمن في إعادة بناء النسيج الاجتماعي والسياسي. النزاعات الطويلة تركت ندوباً عميقة في العلاقات بين المواطنين، وأضعفت الإحساس بالانتماء الوطني. برامج المصالحة، التعليم السياسي، وتعزيز ثقافة الحوار هي أدوات أساسية لإعادة بناء الثقة بين المكونات المختلفة للمجتمع السوري. كما في تجربة المبادرات المدنية في السويداء، التي جمعت بين مكونات مختلفة في حوارات مجتمعية، فإن إعادة النسيج الاجتماعي تتطلب جهداً جماعياً يتجاوز الانتماءات الضيقة، ويُعيد تعريف المواطنة بوصفها التزاماً مشتركاً.

على المستوى السياسي، الاستقرار بعد الحرب يتطلب رؤية متوازنة تجمع بين العدالة والمشاركة، بين المركزية واللامركزية، وبين السيادة الوطنية واحترام الحقوق الفردية. تجربة سوريا التاريخية تقدم دروساً مهمة: الاستقرار الحقيقي لا يأتي من فرض نظام مركزي صارم فقط، بل من قدرة الدولة على التكيّف، منح مساحة للمجتمع المدني، وتمكين المواطن من المشاركة في اتخاذ القرار. كما أشار المفكر عزمي بشارة، فإن الديمقراطية ليست حلاً سحرياً، لكنها أداة لتحويل النزاع إلى تفاهم، والخلاف إلى حوار، والمواطنة إلى مسؤولية جماعية.

وفي الختام، الاستقرار بعد الحرب في سوريا ليس مهمة سهلة، لكنه ممكن إذا تم التعامل معه كمسار شامل، يجمع بين البنية الاقتصادية، السياسة الرشيدة، إعادة بناء الثقة الاجتماعية، والحفاظ على الهوية الوطنية. المستقبل السوري يحتاج إلى فلسفة تتجاوز اللحظة، إلى رؤية تراعي الماضي، وتستوعب الحاضر، وتبني للمستقبل. إن أي خطة ناجحة لإعادة بناء سوريا يجب أن تعتمد على الشعب نفسه، ليس كمتلقي للقرارات، بل كشريك فاعل في صياغة الدولة والمجتمع. كما يقول الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، فإن “الشرعية السياسية لا تُبنى إلا بالحوار”، وسوريا اليوم بحاجة إلى حوار شامل يعيد تعريف معنى الانتماء، ويحوّل الصدمة إلى فرصة، والانقسام إلى وحدة، والمعاناة إلى حكمة جماعية.

حسان دالاتي، 11/8/2024

Hassan Dalati
ADMINISTRATOR
PROFILE

Posts Carousel

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

Latest Posts

Top Authors

Most Commented

Featured Videos

Tags

أنطون سعادة أوغاريت أوغاريت وأبجدية العالم إدوارد سعيد إعادة بناء الهوية الصمود الثقافي والاجتماعي إيبلا وتاريخ الإدارة الأمة السورية التاريخ الثقافي السوري التجربة السورية التحولات الاجتماعية في سوريا التحولات السياسية في سوريا التضامن في زمن الأزمة التعليم البديل في سوريا الثورة السورية الحاضر السياسي السوري الحرية السياسية العربية الحضارات السورية القديمة الحضارة السورية القديمة الديمقراطية في سوريا الذاكرة الحضارية الزراعة الأولى في سوريا الشتات السوري الطيب تيزيني العدالة الانتقالية الفلسفة الاجتماعية السورية الفلسفة والمقاومة الفن السوري الحديث المبادرات المجتمعية المجتمع السوري قبل الثورة المقاومة الإنسانية النزوح والهجرة السورية النساء المعيلات الهوية الوطنية السورية بول ريكور جان بول سارتر والحرية داريا والمقاومة الثقافية سوريا مركز حضاري عالمي صمود الشعب السوري عبد الرحمن الكواكبي عزمي بشارة غرامشي وتفاؤل الإرادة فلسفة البعث ميشيل عفلق ميشيل فوكو والسلطة يورغن هابرماس