تُعيد المقالة تعريف الأمل بوصفه فلسفة وجودية لا مجرد شعور عاطفي، وتُظهر كيف تجلى في التجربة السورية كقوة مقاومة وصناعة للمعنى. تُدمج أمثلة من الحياة اليومية، من التعليم في المخيمات إلى التضامن المجتمعي، وتُربط بمفاهيم فلسفية من أفلاطون وكامو. تُبرز أن الأمل ليس هروبًا من الواقع، بل فعلًا واعيًا يعيد تشكيل الزمن، ويؤسس لمسار تقدمي رغم الجراح
الأمل في زمن الصراعات ليس شعورًا عابرًا، بل هو فعل وجودي، مقاومة صامتة ضد الانهيار، وقرار داخلي بأن الحياة تستحق أن تُعاش رغم كل شيء. في التجربة السورية، حيث تداخل الدمار بالنزوح، والألم بالفقدان، لم يكن الأمل ترفًا، بل ضرورة. كان الحبل الخفي الذي منع الروح من الانكسار الكامل، والنبض الأخير الذي أبقى الإنسان واقفًا وسط الركام.
رأى الفلاسفة عبر العصور في الأمل أكثر من مجرد رجاء. اعتبره أفلاطون شعاعًا من عالم المثل، يتسلل إلى الواقع ليمنحه معنى. ووصفه كامو بأنه “التمرد الصامت ضد عبثية الحياة”، حيث يرفض الإنسان أن يُختزل في الألم. أما في سوريا، فقد تجلى الأمل في تفاصيل صغيرة: في ابتسامة طفل رغم الحصار، في استمرار التعليم في مخيمات النزوح، في الأغاني التي تُغنّى وسط الخراب، في صلاة جنازة تحت حصار المدرعات. هذه اللحظات، ورُغم بساطتها، كانت أفعالًا فلسفية، تُعيد للزمن قيمته، ولطلب الحرية معناه وللإنسان كرامته.
يحمل الأمل في زمن الصراعات بعدين يكمل أحدهما الآخر: فردي وجماعي. على المستوى الفردي، هو قدرة الإنسان على أن يرى معنى يتجاوز آلامه الشخصية. كما في قصة رجل فقد بيته لكنه قرر أن يبدأ من جديد، أو امرأة فقدت زوجها لكنها اختارت أن تُكمل تعليم أطفالها، يتجلى الأمل كفلسفة للبقاء. أما على المستوى الجماعي، فيظهر الأمل كشبكة من التضامن، حيث تتكاتف المجتمعات المحلية، تُعيد تنظيم نفسها، وتُثبت أن المصير المشترك أقوى من محاولات التدمير.
لكن الأمل ليس ساذجًا البتة، في زمن الصراعات، قد يتحول إلى أداة سياسية تُستخدم لتخدير الناس أو دفعهم إلى الانتظار السلبي. لذلك، لا بد من التمييز بين الأمل الحقيقي المبني على الوعي والعمل، وبين الوهم الذي يُغري بالركون والتقاعس. الأمل الفعّال هو ذاك الذي يرافقه فعل: تعليم، حفظ ذاكرة، بناء مشروع صغير، أو حتى كتابة قصة. إنه أمل يرى الجرح، لكنه يرفض الاستسلام له.
من منظور فلسفي، يعيد الأمل تعريف الزمن. في لحظات الحرب، يصبح الزمن مثقلاً بالانتظار: انتظار انتهاء القتال، عودة الغائبين، أو تحقق العدالة. الأمل يحوّل هذا الانتظار إلى فعل، إلى مسار نحو المستقبل. كما في تجربة السوريين الذين أسسوا مدارس في المخيمات، أو الذين كتبوا عن مأساتهم بدلًا من دفنها، أو تفانوا للنجاح في الشتات والمغتربات، فيها جميعاً يتجلى أن الأمل ليس هروبًا من الواقع، بل إعادة تشكيل له.
التجربة السورية تُبرهن أن الأمل ليس رفاهية نفسية، بل ضرورة للبقاء. المجتمعات التي فقدت الأمل تحولت إلى فرائس للعنف والانهيار، بينما تلك التي تمسكت به استطاعت أن تخلق أشكالًا جديدة من الحياة. الأمل هنا يصبح فعلًا ثوريًا: رفضًا للاستسلام، وإصرارًا على أن الإنسان قادر على تجاوز جراحه، لا بإنكارها، بل بتحويلها إلى قوة.
ولعل أجمل ما في الأمل أنه لا يكتفي بالبقاء، بل يفتح الباب أمام التقدم. السوريون الذين يدرّسون أبناءهم رغم النزوح، أو الذين يستثمرون في التكنولوجيا والمعرفة رغم قلة الإمكانيات، لا يكتفون بالنجاة، بل يزرعون بذور الغد في تربة مثقلة بالدماء والدموع. الأمل هنا ليس فقط فعلًا فرديًا، بل مشروعًا جماعيًا، يُعيد تعريف معنى الحياة، ويؤسس لمستقبل لا يُبنى على النسيان، بل على الوعي.
الأمل في زمن الصراعات هو فلسفة بقاء وتقدم. إنه القدرة على أن ترى النور وسط العتمة، وأن تؤمن بأن الغد يمكن أن يكون أفضل، ليس بالمعجزات، بل بالفعل الإنساني الواعي. الأمل هو ما يجعل السوري، قادرًا على النهوض بعد السقوط، وعلى تحويل جراحه إلى علامات قوة.
وهكذا، يصبح الأمل أعظم درس إنساني وفلسفي يقدمه السوريون للعالم: أن البقاء ليس نهاية المطاف، بل بداية لمسيرة تقدم لا تتوقف.
حسان دالاتي، استنبول 27/10/2012

















Leave a Comment
Your email address will not be published. Required fields are marked with *