تُعيد المقالة رسم العلاقة بين الأزمات السياسية العالمية والواقع السوري، وتُظهر كيف تتحوّل سوريا إلى مرآة لصراعات القوى الكبرى. تُدمج شخصيات فكرية مثل نعوم تشومسكي، جورج قرم، كارل شميت، وتُستحضر أمثلة تاريخية مثل الثورة السورية الكبرى، وتجربة فنلندا في الحرب الباردة، لتوضيح كيف يمكن لسوريا أن تكون فاعلاً لا ضحية. المقالة تُبرز أن فهم السياسة السورية يتطلب وعياً فلسفياً بالتداخل بين المحلي والعالمي
سوريا، في قلب الشرق الأوسط، لم تكن يوماً مجرد مشهد محلي لصراعات داخلية، بل عقدة مركزية تتأثر بكل اهتزاز في السياسة العالمية. فالأزمات التي تعصف بالقوى الكبرى لا تمرّ مرور الكرام على هذه الأرض التي تشكّل ملتقى الحضارات، بل تتردد أصداؤها في شوارع دمشق وحلب وريفها البعيد، فتترك أثرها على كل بيت، وكل قرار، وكل نفس من أبنائها. إن فهم السياسة السورية المعاصرة يتطلب قراءة دقيقة للتفاعلات العالمية، لأن سوريا ليست جزيرة منعزلة، بل مرآة لتقلبات العالم، وصورة مصغّرة لصراع النفوذ الإقليمي والدولي.
خذ على سبيل المثال الأزمة السورية التي بدأت عام 2011. هي ثورة شعبية واحتجاجات شعبية ضد الظلم ولنيل الحرية، لكنها أيضاً كانت نقطة التقاء بين مصالح إقليمية ودولية. حيث أن القوى الكبرى -من الولايات المتحدة إلى روسيا، ومن إيران إلى تركيا- استغلت الأزمة لتحقيق مصالحها، وغالباً على حساب الشعب السوري. الحروب بالوكالة، التدخلات العسكرية، والدعم السياسي لأطراف متباينة، جميعها أمثلة على كيف يمكن للأزمة العالمية أن تتجسد محلياً، مؤثرة على الأمن الداخلي، الاقتصاد، والثقافة السياسية. كما عبّر المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، فإن “السياسة الخارجية ليست مجرد إدارة للمصالح، بل إعادة تشكيل للواقع المحلي وفقاً لمعادلات القوة”، وهذا ما تجسّد بوضوح في الثورة السورية.
التأثير لا يقتصر على السياسة الرسمية، بل يمتد إلى نسيج المجتمع السوري. الأزمة الاقتصادية العالمية، مثل انهيار أسعار النفط أو التضخم الدولي، انعكست مباشرة على قدرة السوريين على العيش الكريم. العقوبات الغربية، رغم أنها تُقدَّم بوصفها أدوات ضغط على النظام، كانت في كثير من الأحيان عقوبات على الشعب، حيث تحوّلت إلى قرارات تحدد مصير العائلات، ومستقبل المدن المدمّرة. كما أشار المفكر اللبناني جورج قرم، فإن “الاقتصاد السياسي للعقوبات يُعيد إنتاج الفقر بوصفه أداة للضغط”، وهو ما نراه في الواقع السوري اليوم.
ومن منظور فلسفي، تفرض الأزمة العالمية على سوريا سؤالاً وجودياً: هل تكون مجرد ضحية للتقلبات الدولية، أم قوة فاعلة قادرة على التكيّف والصمود؟ التاريخ السوري مليء بأمثلة على قدرة الشعب على مواجهة التحديات الكبرى—من الغزوات الإمبراطورية القديمة إلى الاحتلال الحديث للأراضي السورية. كما في مقاومة الاحتلال الفرنسي في عشرينيات القرن الماضي، حين تحوّلت الثورة السورية الكبرى إلى نموذج للصمود الوطني، فإن الوعي التاريخي يوازي فهم السياسة المعاصرة، ويُعيد تأكيد الهوية الوطنية في وجه الضغوط الخارجية.
التغيرات في موازين القوى العالمية، كصعود الصين اقتصادياً، أو توترات أوروبا الشرقية، أو العقوبات الأمريكية، كلها تحرّك رقعة الشطرنج السورية. وهنا تظهر الحاجة إلى قيادة سياسية قادرة على قراءة هذه الديناميكيات، واتخاذ قرارات استراتيجية تعكس مصلحة الأمة، لا مصالح الأطراف الخارجية. كما يقول المفكر الألماني كارل شميت، فإن “السياسة هي القدرة على تحديد العدو”، وفي الحالة السورية، فإن العدو ليس فقط من يحمل السلاح، بل من يُعيد تشكيل الواقع وفقاً لمصالحه العابرة للحدود.
السياسة هنا تصبح فن التوازن بين القوى، والفلسفة هي إدراك أن الاستقرار ليس حالة طبيعية، بل نتيجة فهم دقيق للتفاعلات المعقّدة بين الداخل والخارج. كما في تجربة فنلندا خلال الحرب الباردة، حين نجحت في الحفاظ على استقلالها رغم ضغط القوتين العظميين، فإن سوريا اليوم مطالبة بإنتاج نموذجها الخاص في الصمود، لا عبر الحياد السلبي، بل عبر الفهم النشط لموقعها في العالم.
وهنا أؤكد أن الأزمات السياسية العالمية ليست مجرد أحداث بعيدة، بل عناصر فاعلة في تشكيل حاضر ومستقبل سوريا. كل قرار دولي، وكل تحرّك إقليمي، وكل تغير اقتصادي عالمي يتردد صداه في دمشق وحلب وحمص، يختبر صمود الشعب، ويعيد رسم ملامح الهوية الوطنية. فهم هذا الترابط العميق بين الأزمة العالمية والواقع المحلي ليس فقط ضرورة سياسية، بل مسؤولية فلسفية: مسؤولية التفكير في معنى الحرية، السيادة، والاستقرار في زمن تتشابك فيه القوى، ويصبح فيه كل حدث عالمي مرآة لتحديات الإنسان والمجتمع السوري. سوريا، في هذا السياق، ليست ضحية فقط، بل ساحة اختبار للعالم، ومختبر لصمود الإنسان أمام العواصف الدولية المتلاحقة..
حسان دالاتي، 16/8/2018

















Leave a Comment
Your email address will not be published. Required fields are marked with *